الشرعية والتحالف عناق حد الإختناق

✍️ عبدالرحمن سلام علي

إن الشرعية التي تفشل في صيانة وحماية التراب الوطني، ولا تجد لنفسها مكاناً في جغرافياً وطنها لتستقر فيه ، لا يحق لها أن تسمى “شرعية”. لأن الشرعية انجاز، (رضا وقبول)، ودور، ومهام، ووظيفة سياسية، ومادية ملموسة.

إن الشرعية تبدأ بـــِ”الإرادة”، ولا تنتهي بمجرد صياغة “الرؤية الوطنية”، بل بتنفيذ الرؤية في واقع الممارسة، ولذلك نؤكد القول: أنْ لا شرعية بدون إرادة، وبلا رؤية تتحقق أفعالاً، تعكس معنى ومضمون هذه الشرعية أو تلك، وما بعد ذلك كله تفاصيل قد نتفق أو نختلف حولها في سياق الممارسة العملية .

نؤكد على هذه المعاني والمفاهيم دون قفزنا على الانقلاب الذي انتج كل هذا الخراب المأسوي الذي نعيشه، خاصة وأننا أمام انقلاب يسعى لتأسيس معنى وجوده في واقع الممارسة على قضية العبودية الإجبارية لكل المجتمع تحت وهْم حق البعض في حكم كل المجتمع أو أغلبيته العظمى، بــِ”حقهم الإلهي بالولاية”، وهو ما يقفز عليه بعض دعاة شعار السلام، وهي خطيئة تحاول فرض الانقلاب وشرعنته في واقع الممارسة ، وباسم السلام. وبهذا المعنى فإن نقدنا لأخطاء الشرعية، لا يعني أننا نقبل بشرعنة الانقلاب في طبعته السلالية، والذي يحول شعباً بكامله إلى قطيع من العبيد.

فالشرعية على كل خطاياها، يمكن التفاهم معها ونقدها وتصويب أعوجاجها، أما من يقول لك أنه يملك وصية دينية/ إلهية لجرك إلى حظيرة العبودية الإجبارية، فذلك ما لا يمكن القبول به تحت أي “سلام”.

وهنا يتمظهر الفارق السياسي النوعي بين الشرعية ، وبين الانقلاب.

ولذلك من المهم التأكيد على أن الشرعية ليست كلمة مختزلة في اسم الرئيس فلان، أو علان، على الطريقة العربية الاستبدادية، الذي يستعمر فيها الرئيس كرسي السلطة/الرئاسة، من الانقلاب إلى القبر، أو من صندوق الانتخابات حتى تحويله إلى “بيعة”، أو “توريث”، ومن ثم إلى القتل ، عبر تفتيت وتفكيك المجتمع، وتدمير الدولة بالحروب الذاتية/العبثية والعقيمة .

إن المفترض أن اسم الرئيس يأتي كرمزية، أي أنه شخصية اعتبارية، هي الدولة، والرئيس ليس اكثر من موظف لدى الشعب ، وبأجر معين، ولفترة محددة دستورياً. ذلك لأن معنى الشرعية في واقع الممارسة هي كائن دستوري قانوني متمثل في نظام المؤسسات، وسلطة القانون الذي يقوم ويتأسس عليه نظام الحكم .

وفي حالتنا اليمنية، فقد وجدت شرعية ما بعد ثورة فبراير 2011م نفسها محاصرة بجملة ضغوطات منظومة الشرعية القديمة، وبكل مضمون وتفاصيل”الدولة العميقة”، دولة العصبية/ المركز، ولم تستطع التحلل منها لأسباب عديدة منها: ذاتية، (متمثلة في رئيس توافقي يفتقد لكاريزما القائد)، وموضوعية، وتاريخية، وإقليمية، كانت جميعها ضاغطة عليها، وعلى شكل ومضمون حركتها في واقع الممارسة، وهذا هو الجزء الأول من أزمة الشرعية، والذي هندس الرئيس السابق/علي عبدالله صالح انقلابه عليها بالتحالف التكتيكي أو بالتنسيق مع الجماعة الحوثية .

والجزء الثاني المكمل لأزمة الشرعية القائمة جاء من حصار التحالف لهذه الشرعية، التحالف الذي تحول تدريجياً إلى حالة احتلالية/استعمارية، بعد أن جردت الشرعية من كل مقومات ومصادر قوتها ، وحل التحالف عمليا إلى بديل عنها في الجنوب، وبعض مناطق الشمال، الذي تخضع الاقسام المتبقية منه لسلطة الحوثيين.

إن كل ما يجري، هو ما يفسر تجميد عمل كل مؤسسات سلطات الدولة الشرعية، وتوزعها بين سلطات الانقلاب، والتحالف الاحتلالي، والجماعات العصبوية الميليشوية تحت التسميات المختلفة في الجنوب.

ولذلك نجد انفسنا أمام حكومة اسمية صورية، في عدن، وثانية في صنعاء، حكومتان مهمتهما فقط إدارة أعمال يومية في حدودها الدنيا، وتبرير حالتي الفساد والنهب .

ومأساتنا اليوم أن لدينا اكثر من شرعية تتقاتل من اجل سلطتها الخاصة، و من أجل سلطات ومصالح مموليها، وليس من اجل استعادة الدولة ، وشرعية سلطة دولة المؤسسات. فهناك: شرعية رسمية (ضعيفة تتآكل)، يعترف بها اغلب الداخل الوطني، ويدعمها المجتمع الدولي، كما هناك شرعية فرضت نفسها بقوة الانقلاب والحرب على خلفية تكريس السلالية كعنوان بارز لها تحت مسمى “الولاية” في معظم المناطق الشمالية. هذا إلى جانب شرعيات هوياتية صغيرة عديدة، ممولة من الخارج(الإمارات)، ولها حضورها الخاص في الداخل، يحاول البعض منها ادارة الصراع في صيغة خطاب سياسي هوياتي/جغرافي/مناطقي/جهوي (جنوبي شمالي)، إلى جانب ما يعتمل على الارض من صراعات هوياتية، جنوبية/جنوبية، يحاول بعضها أن يدير معاركه بأدوات عسكرية، وكله صراع يدور ويتمحور فعليا حول السيطرة على مناطق الثروة، ضمن لعبة اقليمية/دولية (انظر ما يحصل في المحافظات الجنوبية،/ وفي تعز، ومأرب ، وشبوة في الاسبوع الأول من يوليو2019م، وفي أبين.. الخ ….) وهو ما حذرنا منه مراراً وتكراراً ومانزال .. والكارثة اليوم أن المتصارعين المحليين صار امرهم ومصير قرارهم السياسي النهائي بيد غيرهم .

إن السبب الرئيسي لكل ما حصل ويحصل أننا فقدنا بوصلة الرؤية الوطنية لصالح الخارج .

وبعد كل ذلك يطل علينا الوزير الإماراتي “أنور قرقاش” ليقول لنا “إن التحالف يدعم وبقوة شرعية فخامة عبدربه منصور هادي، وأنه لن يسمح لأي كان بالمساس بالشرعية”، وهذا كلام تناقضه كل حقائق الممارسات الإماراتية على الأرض.

قد نتفهم التواجد السعودي في”المهرة”، وإن كنا لانبرره ولانقبله بل وندينه، باعتبار أن الصراع والحرب في اليمن مع الجماعة الحوثية ينطوي على بعدين: وطني /قومي، واقليمي/دولي، في علاقة الجماعة الحوثية بالمشروع المذهبي/والقومي الايراني، الذي صار يرى وينظر لليمن، وللعاصمة صنعاء باعتبارها العاصمة الرابعة التي سقطت بيد ايران، كما اعلنها صراحة احد أبرز القادة الايرانيين ، والذي صار يشكل صراعاً وخطراً وجودياً بالنسبة لنا كيمنيين، وللسعودية، بل وللأمن القومي العربي على المدى القريب والبعيد. أما القضية بالنسبة للإمارات وتواجدها في اليمن، فينحصر في صراع مصالح اقتصادية بحته للإمارات، تدخل ضمن احلامهم/أوهامهم لفرض نفوذ استراتيجي/ اقتصادي لها في كل المنطقة، يمتد من جيبوتي إلى الصومال إلى إريتريا إلى السواحل الممتدة إلى اليمن، وهو ما يفسر احتلالهم للموانئ والمطارات اليمنية وتجميد عملها عند حد الصفر-كما سبقت الاشارة- في المحافظات الجنوبية، وصولا لميناء المخا وميناء الحديدة، حتى حديثهم قبل أيام، في 3 يوليو 2019م عن إعادة التموضع لقواتهم العسكرية في اليمن، بصورة “استراتيجية وتكتيكية”، كما أعلنو ذلك. ومن هنا انسحابهم من بعض المناطق الشمالية كلياً كما هو في مأرب، ومن الحديدة (جزئيا)..لأن هدف استعادة الدولة وعودة الشرعية إلى اليمن لا يدخل أصلاً ضمن أهداف الامارات، إن لم يكن العكس على طول الخط. والدليل تعويقهم الجدي لذلك (سياسيا وامنيا واقتصاديا وعسكريا)، للوصول إلى هذا الهدف، وهو ما يمارسونه من أكثر من ثلاث سنوات، على عكس السعودية التي قد تتقاطع مع اليمنيين جزئيا في الوصول إلى هدف قيام نصف دولة، أو دولة تابعة، تحت رعاية اللجنة السعودية أو المكتب السعودي الخاص بإدارة شؤون اليمن، والذي أبرز مهماته صرف الموازنات والاعانات المالية لكبار المشايخ والاعوان ، لتوظيفهم ضد أي محاولة للتوجه نحو بناء الدولة، في صورة إعادة انتاج دويلات شبيهة بدويلة المركز التاريخية، مع بعض الرتوش المحدثة .

ذلك هو السقف السياسي الاعلى الذي قد نصل اليه من خلال علاقاتنا التابعة والهامشية مع التحالف القائم اليوم .

ورحم الله الرئيس الفقيد القاضي/عبدالرحمن الارياني الذي اعلن في رسالة وجهها للرئيس الشهيد/ابراهيم الحمدي، جاء فيها: ” كنت على ثقة أن الشيخ عبدالله الاحمر، ومن ورائه الأخوة في المملكة السعودية لن يتركوا لك فرصة كبيرة حتى تستكمل بناء دولة يمنية قوية وفاعلة وغير قابلة للابتزاز، وتعدد الزعامات والسلطات “.

وكأن التاريخ يعيد انتاج نفسه في صورة المهزلة السياسية، والانسانية الحاصلة في بلادنا اليوم.
إن كل ما استطيع قوله هنا أن الشرعية استغاثت أو استنجدت بالتحالف الذي القمها حجراً، فوجدنا أنفسنا بين كماشات عديدة تحاصرنا من الداخل ومن الخارج، تعمل بدأب لتعويق أي امكانية لقيام الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.

ومن هنا حديثنا عن الضرورة السياسية والوطنية لقيام كتلة وطنية تاريخية، تجمع شتات اليمنيين جميعاً في الجنوب والشمال ، لاستنهاض مشروع سياسي وطني تحرري ديمقراطي، يسقط الانقلاب، وجميع المشاريع الهوياتية الصغيرة، ما قبل الوطنية وما قبل الدولة.

واختتم مقالي هذا بعبارات أو سطور موجزة للباحث / حسام ميرو في صحيفة الخليج 18/3/2019م، فيها تلخيص عميق لأزمتنا الراهنة حيث يقول:
” إن المعالجة المتأخرة في السياسة، أو غيابها، يسقط مناعة المجتمعات ويظهر أسوأ ما لديها من أزمات، ويعيد إنتاجها في أكثر الأشكال ابتذالاً، من مثل عودة الهويات ما قبل الوطنية، أو الولاء للخارج، أو ظهور التنظيمات الراديكالية وغيرها”.

وهو ما نعيشه اليوم بكل التفاصيل الجارحة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى