*“أمة اقرأ لا تقرأ”* *الأمم التي لا تقرأ تصادق على صكّ تخلفها

 

عبدالستار الخديمي كاتب تونسي

المطالعة تاهت في زحمة الثورة المعلوماتية من خلال متابعتي اليومية لما ينشر على موقع فيسبوك، لاحظت أن الصور والمشاهد المرئية تلقى تفاعلا كبيرا جدّا من طرف المستخدمين، في حين أن المنشورات المكتوبة من صنف المقالات والمحاولات الإبداعية في مجالي النثر والشعر مثلا، لا تلقى نفس الاهتمام. وتذكرت حينها المعادلة الغريبة أو المفارقة العجيبة التي يتداولها الناس في سخرية في أغلب الأحيان “أمة اقرأ لا تقرأ”.

هذه المفارقة لها ما يبررها إذا ما تأكّد لدينا أنّ الكتب والمكتبات المنزلية صغيرة الحجم وقليلة عدد الكتب أصلا، ليست إلا ديكورا منزليا تستعمله العائلات لا للتثقيف والمطالعة وتنمية القدرات الذهنية والفكرية وإنما لتزيين قاعات الجلوس كالتحف والألوان الزاهية والمفروشات.

فباستثناء الكتب المدرسية والوسائط التعليمية على اختلافها والتي تفرضها علاقة المتمدرسين بالمدرسة لغايات تعليمية بحتة، فإن الكتاب والمطالعة خرجا أو أُخرجا عنوة من سلّم العادات الفردية والأسرية والاجتماعية، بل أصبح استعمال الكتاب والمجلة والدراسة والوثيقة التاريخية والتقرير العلمي.. حكرا على البعض من المثقفين والباحثين وليس كلّهم طبعا، فحتى أهل الاختصاص في اللغة والأدب والفلسفة والعلوم.. أصبحوا لا يطالعون وفي أفضل الحالات يقتصرون على تصفّح القراءات النقدية المختزلة لهذا العمل الإبداعي أو ذاك، كسلا واقتصادا للجهد.

من بين المهامّ التثقيفية والتعليمية التي من المفروض أن تكون في أعلى هرم الأولويات التي تضطلع بها وسائط الإعلام الاجتماعي، تسهيل البحث وتيسير الوصول إلى المعلومة، ولكن استعمال المستخدمين “قزّم” بشكل لا واع هذه المهمة وذلك لقلة القراءة أو انعدامها رغم توفر كمّ هائل من الكتب الإلكترونية التي تنشر يوميا على صفحات هذه الوسائط.

من الأكيد أنّ السائد والمألوف في العادات والتقاليد الاجتماعية قابل للتغير باستمرار في تفاعل حثيث مع المتغيرات الفكرية والحضارية، ولن تشذّ عن هذه القاعدة قيمة القراءة والمطالعة إذا ما كان الأمر في الحدود المعقولة، أما إذا انقلب الأمر إلى عزوف ثمّ هجر مطلق، فنحن لا شك سائرون نحو تجهيل مقنن وممنهج ومبرمج مسبقا.

نسمع دائما في التقارير الصادرة عن الوزارات والهياكل والمؤسسات المعنية، وخاصة وزارة التربية ووزارة الثقافة.. -على مستوى الخطاب الرسمي- أنها بصدد دعم الترغيب في المطالعة لدى الأطفال خاصّة، في مسعى لترسيخها كعادة اجتماعية، وتنطلق “المشاريع” في شكل دعم للمكتبات العمومية والمتجوّلة وإنجاز ورشات. في الظاهر هذا ما يجب أن يكون ولكن الواقع أمر آخر مختلف تماما، كل هذه المجهودات تذهب في مهب الرياح دون فائدة تذكر، بكل بساطة لأنها تندرج في إطار الصخب الإعلامي المناسباتي غير المستمر لا في الزمان ولا في المكان.

لتنجح عملية دفع الناشئة إلى القراءة والمطالعة لا بدّ من تجديد الوعي بقيمتهما عند الكبار قبل الصغار، فالأطفال يتعلّمون من محيطهم الأسري والاجتماعي ويأخذون عنه الجيّد والسيء، فمن أهمّ وسائل التعلّم المحاكاة خاصة في المراحل العمرية الدنيا، أما الوسائل المتاحة عمليا لإنجاز ذلك فهي متعدّدة ولعلّ أبرزها الجدّية في ترسيخ المطالعة كقيمة ثابتة وعادة حميدة في نفوس الأطفال، فعلى الآباء والأمهات والمدرسين والمثقفين عموما أن يباشروا بالمطالعة باستمرار في أوقات فراغهم وقبل النوم وفي وسائل النقل العمومي وفي قاعات الانتظار بالفضاءات العمومية، قبل أن يدعوا الصغار لفعل ذلك لأن أي دعوة إذا لم تقترن بالفعل تبقى مجرّد رؤية نظرية لا سبيل إلى تطبيقها أو الاقتناع بتطبيقها.

إذن المسألة تتجاوز مجرّد انبهار الناس بالصورة وجاذبيتها على حساب الحرف والكلمة، إلى فقدان الفعل القرائي كأداة تعليمية – تثقيفية أو على الأقل تقلّص الاهتمام بالكتاب والمنشور المكتوب.

*“أمة اقرأ لا تقرأ”* خير تعبير فصيح يختزل علاقة العرب والمسلمين بالكتاب وإذا ما أردنا توضيح فداحة ما يرمي إليه هذا الشعار، فإن الدول المتقدّمة جميعها أعطت أهمية بالغة للقراءة والمطالعة، وتصلنا فيديوهات عديدة حول انشغالات المسافرين الغربيين في رحلاتهم بالمطالعة، حيث يصطحبون دوما كتبهم المفضلة، ولكننا نواصل الانشغال بصورهم ولا نعير أفعالهم الأهمية التي تستحقها. لماذا نقلدهم في ما لا يفيد ونترك ما يفيد؟

أثبتت التجارب البشرية عبر حقب التاريخ المختلفة أن الإنسان تطوّر بعد اكتشافه للغة باعتبارها طريقة للتخاطب والتواصل، كما أثبت أن أكثر الشعوب رقيّا وتقدّما أكثرها قراءة وعلما. ومن هذا المنطلق على اللّبنة الاجتماعية الأولى وهي الأسرة أن تقوم بدورها الذي يُعتبر رياديّا، فتعمد إلى خلق صداقة حميمة تتوطّد باستمرار بين الكتاب والطفل تجسيدا للمقولة المشهورة “الكتاب خير أنيس”، كما لا بدّ من محاولة تغيير النظرة لما ينشر في الوسائط الإعلامية الحديثة باعتبارها أدوات تثقيفية وتعليمية رائدة تنمّي المدارك العقلية وتفتح أبواب المعرفة والتعلم والبحث كذلك.

في الختام على المدرسة أيضا بصفتها الحاضنة الثانية للأطفال بعد العائلة أن تضطلع بدورها في تثبيت وترسيخ قيمتي القراءة والمطالعة، ولمَ لا إفراد تخصصات في مراحل التعليم المختلفة تُعنى بمثل هذا الموضوع. .

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى