(5) في السجن !.. أحمد سيف حاشد

 

✍️ احمد سيف حاشد

فيما كنت قد صرت في قبضة العسكر، هرع أحد أقرباء المصاب، أظنه ابن عمه، اسمه طلال على الأرجح.. فارع الطول ومتناسق البنية، وبشرته تميل خفيفا إلى السُمرة.. أول ما شاهدني صدمته هيئتي.. بديت دون توقعه أو دون ما كان يتخيله.. وجدني أمامه قزما ضئيلا لا احمل ما يستحق المقارنة مع ابن عمه المصاب.. صرخ في وجه من كان موجودا بغضب ناقم: ”لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا”؟! ربما كان محقا إن نظرنا للأمر بمقياسه.. بالفعل كان شكلي قزما، منهك، شحوب، شارد، عابس، متعوس، فيما كان قريبه المصاب مربربا، تبدو من ملامحه فرط النعمة، ويبدو بسحنة أجنبي يرفل برغد العيش ورخاء يتحدث عن نفسه.. شعره ووجنتيه ولون عينيه وجسمه المكنوز باللحم والشحم..

صرت أرقب بعض ما يحدث.. اعداد أمر الحبس.. حرص العسكر على أن لا أفلت أو أهرب.. تفرس العسكر في قراءة وجهي العبوس الملبد بالصمت.. لمحت وجود تساؤلات غامضة في وجوه بعض الحاضرين.. أحسست بوجود كلام يريد ممعني النظر أن يقولوه، ولكنهم داروه لأسباب ربما تخصهم..

أرقب التوجيه المكتوب بأمر الحبس.. تسليم أمر الحبس لمسؤول الحجز.. اصطحابي إلى غرفة الحجز.. فتح القفل والسلاسل.. فتح باب غرفة الحجز.. توجيه الأمر لي بالدخول.. اغلاق الباب بالسلاسل والقفل ذو الحجم الكبير.. أحسست أنني قد أرتكبتُ أمر جلل ووخيم..

كانت المرة الأولى التي أحتبس فيها.. تجربة مريرة أدخل فيها لأول مرة.. إحساس كثيف بقيد الحرية بحيطان وجدران وحديد.. كانت غرفة الحجز بطول خمسة أمتار أو أقل، وعرض مترين وربما أكثر قليلا، ونافذة صغيرة مشبكة بالحديد.. أحسست أنني أدخل مرحلة أكثر قتامة في حياتي، ويجب أن أتهيأ وأستعد للأسوأ.. شعرت أن مجهولا سيئا ينتظرني لا أعرف بالضبط تفاصيله ونهايته..

كانت غرفة الحجز فارغة لا يوجد فيها محابيس غيري.. ربما كانت مناسبة الزيارة والضيوف تقتضي ذلك.. وربما تم نقل بعض السجناء إلى مبنى المركز الواقع على الطور، أو كان هناك سجن آخر في مبنى المركز..

تمنيت أن يزور سالمين وعبد الفتاح غرفة الحجز.. لعلي أراهم عن كثب.. لعلهم يتفقدون أروقة المكان أو حتى زيارة الضباط والجنود المرابطون فيه، ولكن للأسف لم يحدث هذا.. وبدلا مما كنت أروم مشاهدته من طلعات بهية، وأيادي وأكف تلوح لنا بالتحية والسلام، صرت أتفرس سقف كئيب وحيطان خرساء.. لا ونيس لي غير خرابيش وذكريات سجناء على تلك الحيطان العارية.. وددت أن يكون لدي قلم سحري، أو قطعة فحم، أو حتى مسمار أخربش فيه، وأكتب ذكرياتي وتاريخ حبسي على حائط الجدار، لأقول للنزلاء الجدد أو القادمين بعد حين: نحن مررنا من هنا، ومكثنا بعض الوقت فيه..

للمصادفة وسوء الحظ أن أمي كانت مريضة وترقد في نفس المستشفى الذي أسعف لها المصاب، بل أن أخو المصاب كان هو مدير المستشفى ذاته.. بدأت أشعر بالقلق حيال أمي.. كيف سيتم معاملتها بعد فعلتي التي نالت دما من أخ مدير المستشفى؟!! ربما يطردونها، ربما يلحقون بها ضررا، أو يناولوها السم باعتباره دواء أو عقار، ويتم فيه الانتقام لمصابهم من أمي النزيلة في المستشفى للعلاج.. زاد قلقي وتوجسي وخيالاتي البعيدة بشأن أمي التي ليس لها غيري هناك..

بعد ساعة أو أكثر من انتهاء الحفل الخطابي، استدعاني ضابط البحث الجنائي.. أحضروني إليه.. شاهدت السكين على الطاولة محرزة باهتمام باعتبارها أداة جريمة.. أمر ضابط البحث كاتبه أن يفتح المحضر، وتلى عليه مقدمة أشعرتني أن الأمر جسيم، وأنني أسير إلى طريق المحكمة، وتوقيع عقوبة تفوق قدرتي على الاحتمال..
وبعد السؤال والجواب والاعتراف بما هو مشهود، ومواجهتي بالسكين أداة الجريمة، وبعد اثبات الوقائع والتفاصيل التي رويتها، وهي لا تختلف عما حدث في الواقع، أمر الضابط بإعادتي إلى الحجز.. أستغرق التحقيق قرابة الساعة، وإثبات أقوالي في المحضر، فيما كانت في الحقيقة جريمتي ثابتة ومشهودة..

بعد إعادتي للحجز أطل عليّ من الباب أحد رجال القوات الشعبية اسمه عبد الوهاب من منطقة “الغول” وترجع أصوله إلى “القبيطة” الذي جاء منها هو وأخوه عبد الحميد، أو ربما جاء بهما ولداهما من زمن خلا، وصارا من السكان المقيمين الدائمين في منطقة “الغول” الجنوبية..

كانت طلته كملاك يقدم لي المساعدة دون طلب.. كسحابة مطر وغيث مستغيث.. رحمة قادمة من قدر يبالي ولا ينسى من يحب.. كيعقوب المحب لابنه يوسف.. كإبراهيم والد إسماعيل، ولكن دون سكين ولا فدية ولا أضحية.. بل أعطاني فراش وبطانية ربما أجتهد بتوفيرها..

كان عبدالوهاب يعمل في نفس المكان الذي يفصله عن الحجز أمتار قليلة.. أطل بابتسامته التي خففت عن كاهلي ثقلا لا يقوى على حمله من هم حديثوا سن.. ابتسامته منحتني الطمأنينة والسكينة التي كنت في أشد الحاجة إليها.. حديثه العذب جعلني أشعر أنني أعرفه من زمن طويل يزيد عن عمري القصير..
بعد ساعة شعرت بالإرهاق.. أحسست بالنوم يسبل ويرخي جفوني المنهكة، وذبول يثقل عيوني المرهقة.. استسلمتُ للنوم وغطّيت في سبات عميق.. استيقظت بعد ساعات فجأة!! نهضت وكأني مجنون، أو كأن عفريتا وقف فوق رأسي.. استغرقتني الدهشة والذهول وأنا أسأل: أين أنا؟! أين أنا؟! وبعد برهة جمعت أشتات وعيي المتطاير، واستعدت صورة الواقع، ووعيت أنني محبوسا، وأنني ارتكبت جريمة، وأن هناك مجني عليه مصاب، ربما يتهدده الموت..

وبعد صحو ونوم بدأت أتكيف مع ما أعيشه من حال.. عدت إلى النوم ثم نهضت بعد سويعات، وقد صرت مستوعبا وضعي وحالي الجديد، وربما بديتُ مستعدا للتكيف، وقد تلاشى بعض القلق الذي كان يجتاحني على نحو داهم في البداية..

أنطلق رفيق أخي سعيد عبد الولي من طور الباحة إلى القرية.. أبلغ أخي عمّا حدث.. حضر أخي من القرية إلى مركز طور الباحة في اليوم التالي، ومن حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة، وكان أخي محط احترام وتقدير المسؤولين في مركز المديرية ولاسيما محمد طاهر مأمور المركز، و “باعلي” المسؤول التنظيمي في المركز ، وأنني ما فتئت حدثا، ولهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانة أخي، ومع ذلك تم استدعائي وتوقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة، وفي إحداها تم توقيفي أنا والمصاب معا بعد أن شفي من إصابته، وتم حل القضية وإغلاق ملفها..

أما أمي فلم يصبها مكروه، ولكن أصابها الهلع والجزع، بعد أن علمت من بعض رفقائي الطلاب بما حدث، وكان مدير المستشفى أخ المصاب دكتورا يقدر المسؤولية، ويهتم بمرضاه، ولا يسئ ولا ينتقم..

إن ما حدث كان تهورا وطيشا وسوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، وكان شعوري بالغربة والاستفزاز المتكرر والشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنهم عصابة دفعتني إلى فعل ندمتُ بسببه وتعلمتُ منه..

ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين وعبد الفتاح اسماعيل.. وبعد فترة ربما أشهر صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا وذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء بما فيهم الرجل الطيب عبد الوهاب، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية، ومكانته كبيرة ومهابه عند المثقفين..

وبقي السؤال: لماذا السياسة تفسد العلاقة بين من نحبهم؟! هل هي الدنيا والسلطة، أم غياب العقل، وقلة الحكمة؟! هل هو حضور التهور والطيش، أم قلة التجربة..؟! وربما تعقدت الأسباب وتداخلت مع بعضها؟! لقد كان لدورات العنف الذي شهدها الجنوب نتائجها الكارثية التي أطاحت إحداهم تلو الأخر حتى تمكنت من الجميع، وأثقلت المجتمع بما لا يطاق، وشوهت ما كان يفترض أن يكون جميلا ومحل مثالا..

***

يتبع..

الصورة من أرشيف “الأيام”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى