هل يقدرُ قيس سعيّد على مواجهة هذه الحيتان وقلع تلك الأضراس؟

عين اليمن الحر – شكشوكة تايمز

المعروف عن قيس سعيّد، رئيس الجمهوريّة، أنّهُ لا يحبّذُ اللعب في منطقة “المجاملات” السياسيّة، ولا التخفّي وراء فنّ “الاتيكيت”، لتمرير رسائله إلى الطبقة السياسيّة، بل إنّه لا يعرف أيّ استخدامٍ آخر لـ”القفازات” عدا ارتدائها لتوجيه اللكمات إلى هذه الطبقة التي يعتبرها المسؤول الأوّل عن تردّي الأوضاع في البلاد، حتّى إن خطابه السياسي وجد في “الهجوم” على الأحزاب وترذيل دورها إحداثيّة رئيسية انطلق منها للتعريف بمشروعه السياسي المتمثّل في مراجعة الدستور والقانون الانتخابي والانتقال الفعلي إلى جمهورية ثانية حقيقية قائمة على تنظيم إداري وسياسي يستجيب لمطالب التونسيين.
وبالأمس، لم يلتهم الرئيس كلماته وهو يوجّه رسالة شديدة اللهجة إلى الطبقة السياسية مندّدًا بالخلافات القائمة بين النواب حدّ تبادل الشتائم والسباب. كما ذكرّ في الكلمة التي ألقاها، أثناء زيارته إلى المستشفى الميداني الذي تمّ تركيزه في قبلي لمواجهة انتشار فيروس الكورونا في هذه الجهة، بأنّ الحريّة لا تتمثل في تبادل الشتائم والسب، قائلاً بهذا الخصوص: ”ليست الحرّية تبادل السباب والشتائم بل هي مقارعة الحجّة بالحجّة والفكرة بالفكرة وأكبر مرض يمكن أن يُصيب الإنسان هو إيمانه بأنّه يمتلك الحقيقة”.

الرئيس غاضب
والحقّ أنّ الرئيس بدا غاضبًا يوم أمس، حتّى وإن لم تفصح ملامحه الحياديّة عن ذلك. وهذا الغضب الذي يتشاركه مع غالبيّة الشعب التونسي يعكس في الواقع رداءة المشهد النيابيّ واختراق كلّ أشكال السقوط الأخلاقيّ للعمليّة السياسية. إذ صارت قبّة البرلمان بازارًا لعمليّات البيع والشراء، والصفقات التي تحمل روائح الانبطاح للأجندات الأجنبيّة على حساب المصلحة العليا للوطن، والتباينات ذات الامتدادات الإديولوجيّة المتكلسّة، والفساد “المحصّن” من المساءلة.
ولقد وصّف رئيس الدولة هذا الوضع المتردّي بتوصيفٍ بليغ حينما استخدمَ عبارة “البؤس السياسي” وحمّلها دلالات أخرى لا تخطئها الأذن، إذ اعتبر أنّ البؤس الذي يعيشُه التونسيون اليوم لا يُوازيه إلاّ البؤس السياسي، بل حمّل هذا البؤس السياسي مسؤولية تردّي الوضع الاجتماعي والسياسي.

وعود الإخشيدي
كما أدلى الرئيسُ بدلوه في مسألة تجريم السياحة الحزبيّة التي سبق أن أشرنا في مقال سابق على أعمدة “شكشوكة تايمز”، إلى جملة الخروقات الدستورية فيها، فقال: ”للأسف هذه النقاشات التي تدور حول النظام الداخلي لو كان النائب مسؤولا أمام ناخبيه وكان بإمكان الناخب أن يسحب الثقة لما احتاجوا أصلا لمثل هذا الخرق الجسيم…الخرق الذي يجسّد مرضا دستوريا ومرضا سياسيا ربّما أكثر من هذه الجائحة التي انتشرت في كلّ أنحاء العالم”.
والحقّ أن استخدام الرئيس لمفردات كالبؤس والمرض وخيانة الناخب، وهي مفردات/مفاتيح وردت في كلمتهِ يوم أمس، تعكسُ انسجامهُ مع أفكاره التي قّدمها خلال الحملة الانتخابيّة. ألم يقل الرئيسُ أثناء المناظرة الشهيرة : “”لست في حملة انتخابية لبيع أوهام والتزامات لن أحقّقها، بل أنا ملتزم بما أقول وأعد به، عكس وعود الأحزاب التقليدية التي لم يكن حظ الشعب التونسي منها إلا كحظ المتنبي من وعود كافور الإخشيدي”. ألم يقل أيضًا في كلمتهِ لأبناء سيدي بوزيد بمناسبة ذكرى ثورة 17 ديسمبر: “هناك للأسف من يفتعل الأزمات وكل يوم هناك مؤامرة وستتصدون لها وأعرف أنكم أحرار ولن تمر عليكم هذه المهاترات التي تحاك لأنكم تعرفونهم بالاسم ومن يقف وراءهم في الظلام”؟.
ألم يؤكدّ لأهالي القصرين أثناء إشرافه على إحياء الذكرى التاسعة ليوم الشهيد، إنّهُ “لا يمكن الاستمرار على الوضع الدستوري الحالي وأنّه حان الوقت لمراجعة الدستور والقانون الانتخابي والانتقال الفعلي إلى الجمهورية الثانية يكون فيها تنظيم إداري وسياسي يستجيب لمطالب التونسيين” واتهم بالمناسبة “أطرافا بالعمل على افتعال الأزمات واستعمال خطاب الأزمة كأداة للحكم لديها حتى تبقى الأمور على حالها من فساد”؟
هذهِ المواقف المتواترة في الزمن، والتي لم تغادر قطّ منطقة “القناعة الثابتة” لدى رئيس الجمهوريّة في “فساد” و”خيانة” الطبقة السياسية، لم تفعل الأيّام الأخيرة سوى تأكيد صدقيّتها ووجاهتها، خصوصًا في هذا الظرف الاقتصادي والاجتماعي والصحيّ الذي تعرفه تونس، ظرف كان يفترضُ بالطبقة السياسية معالجتهُ لا مزيد تعفينه.

الضرس المسوّسة
ويحسبُ لقيس سعيّد أن سمّى الأشياء بمسميّاتها، وهذا السلوك الذي يفضحُ ممارسات الأحزاب، هو ما جلب عليه نقمة كبار اللعبة السياسية، إلى حدّ إطلاق يد صفحاتها المأجورة للنيل من رئيس الجمهورية، في جوّ عام لا سمة لهُ سوى الإفلات من العقاب.
وعلى ذكر العقاب، ثمّة جملة “معقدة” و”حمّالة أوجه”، وردت يوم أمس في كلمة رئيس الجمهورية لأهالي قبلّي، إذ قال حرفيّا :”…وسنقضي بنفس الإرادة على هذا البؤس الاقتصادي والاجتماعي وعلى البؤس السياسي الذي يستمرّ ويتقلّب ويتلوّن بكلّ لون”. وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن الطريقة التي سيتوخاها رئيس الجمهوريّة لمعالجة ضرس المشهد السياسي المسوّس، لا سيّما أن صلاحياته المحدودة لا تسمحُ لهُ باقتلاعه؟ هل سيكتفي بتحريض المواطنين على الطبقة السياسية “البائسة”، حسب توصيفه، أم يتحرّك دستوريّا ضمن المجال المتاح لهُ، ويتقدّمُ بمبادرات تهدفُ إلى أخلقة الحياة السياسية؟ بل إننا نتساءلُ عن وزن الرئيس السياسي، وهو الذي صعد إلى الحكم بدعمٍ شعبيّ منقطع النظير، ولكن دون أيّ حزامٍ حزبيّ، مقارنةً بطبقة حزبيّة خبيرة بالمناورات “والمؤامرات” “وبيع القرد والضحك على شاريه”؟ كيف سيتعاملُ قيس سعيّد مع طبقة سياسية حسم فيها منذ البداية وقطع أمامها كلّ طرق استدراج مؤسسة الرئاسة إلى مستنقع التحالفات الظرفيّة؟
هذه الأسئلة وغيرها يمرُ بها قلبُ التونسي العاديّ الذي يوشكُ على البكاء أسفًا على حال بلادهِ، ذلك أنّ سلامة نيّة الرئيس وطيبته واقترابهِ من هموم شعبه والتعبير عنها بألسنتهم، لا تمنحهُ القدرة على مواجهة حيتانٍ حزبيّة تتقنُ التحرّك في كل الحقول، حتّى تلك المزروعةِ بالألغام، الأمرُ الذي تنذر باستدامة الأزمة السياسية في البلاد التي تتهيّأ لاستئناف حياتها الطبيّعية مع قرب انطلاق المرحلة الثانية من الحجر الموجّه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى