مجانين لكنهم عقلاء

كتبت |شذى الصوفي

في عالمنا المجنون وحدهم فاقدي العقل من يعيشون حياتهم بطولها وعرضها في عالمهم الخاص البعيد عن متناول يد العقلاء ( إذا ما جاز لي التعبير ) لا هموم ولا منغصات , لا حب ولا كراهية , لا غدر ولا خيانة , تساوت الحياة في نظرهم بحلوها ومرها وجميع الناس عندهم سوأ ,لا هذا طيب ولا ذاك شرير , ولا فلان غني فيتقربون منه ويستعطفونه , ولا علان فقير فيبتعدون عنه , وهم أيضاً لا يعرفون من هو المسؤول فيتملقون له ويجاملونه من أجل مصالحهم الشخصية , ورغم قساوة العيش الذي يعيشونه والحالة المزرية التي هم عليها من وجهة نظرنا نحن العقلاء الا انهم يجدون سعادتهم بعيداً عن عالم العقلاء المليء بالضغائن والأحقاد والحسد والكراهية حيث الجار يتربص بجاره والأخ يقتل أخاه , والزوج يفتك بزوجته والأبن يذبح أمه وأباه والصديق يخون صديقه , والحبيب يتنكر لمن يحب, عالم متخم بالشرور تحكمه الماديات وتتحكم به المصالح , أما عالمهم فلا مكان لهذه المتناقضات , ولأول مرة أصدق المقولة المتداولة ( فاقد العقل مرتاح )  .

ونحن اليوم نعيش هاجس الخوف من تفشي فيروس كورونا وما تسبب به من انهيار اقتصادي وارتفاع الاسعار وزيادة معدلات البطالة واتساع دائرة الفقر , وما تشكله هذه الاوضاع من ضغط علينا نحن البسطاء الذين نحاول جاهدين الحفاظ على ما تبقى من مقومات حياتنا البسيطة , مما يجعلنا نقضي معظم أوقاتنا غارقين بالتفكير في هموم حياتنا ومتطلباتها فنفقد احساسنا بالسعادة والرائحة  الحقيقية في هذه الحياة التي هي مجرد روتين يومي لا يتغير .

ولأننا ندعي اننا عقلاء فقد لفت انتباهي أحد المجانين الذي يتواجد في شارع قريب من حاراتنا , هذا المجنون مسالم جداً اعتدنا على رؤيته من فترة طويلة في ذات المكان ثيابه الممزقة وشعره الكثيف المتماسك كقطعة واحدة وجسده المتسخ على الدوام , هذا المجنون كما نراه نحن العقلاء يتخذ من أحد الأرصفة مقراً له , وكلما مررنا به نجده أما يغط في نوم عميق غير مكترث بضجيج الشارع المزدحم بالسيارات والمارة , فراشه الوثير بضعة كراتين وغطائه أكياس دقيق وقطع قماش مهترئة حيطان غرفته الشوارع المفتوحة وسقفها الفضاء, وأما جالساً بصمت يتأمل المارة من سيارات وبشر وبين الحين والحين يضحك من كل قلبه وكأنه فيلسوف يرى فيهم ما لا يروه في أنفسهم , وربما يكون يسخر من هذه الحياة كما سخرت منه, ولأننا لا نعرف أسمه فقد اعتدنا على مناداته بالعم, قبل يومين حاولت أن اتبادل معه الحديث وأشغله بهموم حياة العقلاء, اقتربت منه وقولت له كيفك يا عم , لم يرد واكتفى بهز رأسه , قولت له مرة أخرى صحيح يا عم وقفوا الحرب باليمن من شأن مرض كورونا , التفت إلى الجهة الأخرى وهو يضحك وكأنه يخاطب شخص آخر سمعته يقول قال لك الحرب وقفة مجانين , الحرب عادها بدأت , واخذ يردد هذه الكلمات ودون توقف وصوته يعلو أكثر وأكثر , استمريت في طريق نحو البيت وأنا أقول في نفسي فعلاً مجانين من تأمروا على بلدانهم ودمروا أوطانهم وقتلوا وشردوا شعوبهم وحولوا الحرب إلى تجارة تدر عليهم ملايين الدولارات على حساب دماء الأف الأبرياء من الأطفال والنساء . وخذوا الحكمة من أفواه المجانين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى