كلية الحقوق (5) مادة “الكساح”

✍️ أحمد سيف حاشد

اللغة الإنجليزية هي خيبتي الكبيرة التي رافقتني طوال دراستي في كل المراحل، بما فيها السنتين المقررة في الجامعة.. العاهة التي عانيت منها طويلا، ولم استطع مغادرة فشلي فيها.. الكساح الذي لم أتعافِ منه إلى اليوم.. المادة الوحيدة الذي يجتاحني فيها القلق منذ الصباح الباكر، ويستغرقني الإحراج وأنا أحضر درسها الذي يطول، وأشعر أنه يشبه في طوله يوم القيامة.. الوحيدة التي أحس خلالها بالعجز الثقيل، وفقدان طاقتي الإيجابية كاملة.. تفترسني دون أن أقاوم، وليس لدي فيها ما أقوله..

أشعر بالعك والاكتئاب لمجرد أن أتذكّرها.. إن أردت تفسدُ ضحكتي المجلجلة في الكلية ذكرنّي بها.. ساعة في درسها أشهد فيها أهوال القيامة.. ساعة تساوى خمسون ألف سنة مما تعدون.. عثرتي وكساحي في الجامعة، التي لم يشاركنِ فيها، غير زميلي وصديقي عبيد صالح الشعيبي..

أشتاق لكل المساقات الدراسية، وأحرص أن أكون في الصف الأول دوما في مواجهة الأستاذ عين بعين، ولكن إذا ما أتت مادة الإنجليزي أهرول إلى الصف الأخير في الفصل.. أكثر من يشاركني هذه الهرولة زميلي عبيد.. كنّا نحاول الاختباء من نظرة الأستاذ في السنة الأولى والاستاذة في السنة الثانية خلف أجساد ورؤوس زملائنا الذين يجلسون أمامنا في الصفوف.. لو أصابني الزهيمر سأنسى الوجوه كلها، إلا وجوه مدرّسي مادة الإنجليزي.. إنها إحدى عقدي الدائمة في الحياة..

إحدى المرات كان زميلي عبيد يحاول مثلي يخبئ رأسه خلف الرؤوس، وعندما أدرك الأستاذ ما يفعله صديقي حاول القبض عليه بسؤال.. اذا مال رأس عبيد يسارا، مال معه رأس الأستاذ؛ ويقول له “نعم أنت” ويوجه له السؤال.. ولكنه بدلا من أن يجيب على سؤال الأستاذ، يميل عبيد رأسه إلى اليمين، فيميل الأستاذ إلى اليمين، ويجعله تحت ناظريه حتى يقنصه، ويقول له مرة ثانية “نعم أنت.. أنت”، فلم يبقِ لزميلي عبيد إلا أن يحاول يطأطئ رأسه في الوسط والانحناء برأسه إلى الأسفل حاجبا رأسه برأس زميلة الذي يقف أمامه؛ فيقف الأستاذ على أطراف أصابعه، ويحدده بيديه، فيفقد زميلي عبيد كل حيلته، وبدلا أن يجيب على السؤال يرد على الأستاذ: مش أنا يا أستاذ، هذا صاحبي الذي بجانبي، ويشير إليّ؛ فينفجر الطلاب في الصف بالقهقهة..

كان يلتبس على زميلي عبيد حروف “السيc” و “الإسs” فيسألني لأنجده عندما يسأله الاستاذ، ولكن بدلا من أن أساعده في التمييز بينهما أشيره بأنه “آرr” فينفجر بالضحك الزملاء في الجوار.. بعض الطلاب وفي كل حصة لمادة الإنجليزي ينتظرون بفارغ الصبر ما يأتي منّا ليضحكوا.. كان كل منّا أحيانا أشبه بالممثل الإنجليزي “مستر بن” في أدواره الصامتة، وما ننطقه يبدو كوميديا كاملة تضحك الجميع..

طلبت منّي مدرِّسة مادة الانجليزي في إحدى حصصها أن أركّب سؤالا باللغة الإنجليزية.. طارت الكلمات من رأسي تحت هلع مباغتتها لي بالسؤال.. وفجأة تذكرت كلمة “سليب” الإنجليزية، وأضفت إليها السؤال والضمير!: فصار السؤال: أين تنامين؟! فضحك الجميع وأولهم مدرِّسة المادة..

أما زميلي عبيد فأراد البوح بما يعتمل في رأسه من هاجس في تلك اللحظة؛ فألتمس منها طلبا حالما سألته أن يأتي بجملة إنجليزية فيها سؤال، عندما كان يرنو من النافذة المطلّة على الميدان، ثم صارح المعلمة بقوله: يا أستاذة.. في الحصة حقك مستعد أن أحمل كيس ملح، وأظل احمله وأجري حول الميدان، حتى تكملي وقت حصتك ثم تناديني بالعودة إلى الصف، ولكن لا تسأليني!.. فقرح الجميع بالضحك..

كنّا في كل حصة ينتظرنا بعض الزملاء ماذا سنقول إن تم سؤالنا؛ ليقهقهوا.. فيما أنا وزميلي طيلة حصة مادة الإنجليزي نسأل الله السلامة.. السلامة فقط هو دعانا ومبتغانا طوال الدرس.. لا نسأل غيرها.. وعندما تنتهي الحصة؛ نتنفس الصعداء، وتتجدد لدينا الحياة في ذلك اليوم؛ وكأننا عبرنا السراط المستقيم بسلام..

كنّا أوفيا أنا وزميلي عبيد لبعض حتى يوم امتحان هذه المادة.. كان جلوسنا يوم الامتحان مع بعض جنبا إلى جنب وهو ما لفت وأثار فضول وضحك زملاءنا.. صرنا مثل خيري وأخيه.. بدا الأمر محل غرابة زملائنا.. كنت أستخدم في الإجابة على أسئلة قطعة القراءة من خلال البحث عن الكلمات في السؤال، ثم أبحث عن الكلمات المشابهة لها في قطعة القراءة، وأعرف أنه الجواب الصحيح.. ثم أكتب الاجابة من النقطة إلى النقطة.. كانت تلك القاعدة التي نسير عليها نوفق فيها إلى حد بعيد، إلا عندما يمكرنا السؤال..

كنت اعتمد على المقارنة والحدس عند الإجابة.. وأحيانا أشعر وأنا أبحث عن إجابة أنني أشبه بالأعمى الذي يعتمد على عصاه في البحث عن الطريق.. وأحيانا اعتمد على شجاعة صديقي عبيد، فأنا لطالما خانتني شجاعتي في مواقف كتلك..

وعندما يمر الوقت المخصص للامتحان، ويمنح المدرس أو المدرِّسة خمس دقائق اضافية، أكتب فيها أي شيء ولا أترك سؤال إلا وكتبت إجابه له، جلها لا يفهمها لا عربي ولا إنجليزي..

خطي في الإنجليزي جميل وأنيق ، وما أكتبه في الوقت الضائع قبل نفاذ الوقت، لا يستطع أحد فهم معناه، ولا أعرف المعنى حتى أنا، وأدرك مليّا أن الأستاذ أيضا لن يفهم شيء، ولا استطيع أن أقرأ شعوره وهو يقرأ، ولكن أدرك أن أقل ردة فعل لديه هو الابتسام، وهذا يكفي.. وربما حدِّث نفسه أن هذا الطالب غريب ومتميز حتى في جهالته.. المهم بالنسبة لي أن أحاول ولا أرد سؤال بخيبته دون جواب.. أكتب أي شيء.. إنه الوقت الضائع الذي لا أضيعه، حتى وإن كان الضياع هو ما أكتبه..

وفي المحصلة لا نسعى أنا وصديقي إلا أن نحصد نصف الدرجة وهي النجاح بالكاد.. أذكر أحد المرات في أيام الحصاد كانت درجاتي في الإنجليزي 26 من 50 قلت في نفسي أن الدرجة الزائدة للإجابة التي اكتبها، وما أكتبه أصلا في الوقت الضائع غير موجود حتى في قواميس اللغة الإنجليزية.. لا أحد يفهم معناها حتى أنا، ولا تعدو غير شرف المحاولة اليائسة، إن لم تكن طلاسم تجلب لي الحظ ومقبول النجاح..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى