حروب اليمن وحدود صبر المجتمع الدولي

✍️ عبد الحميد صيام




نحن الأن أمام مشهد تراجيدي في اليمن على طريقة الأساطير الإغريقية. اليمن أصبح حقل تجارب لكل ما يمكن أن يؤذي الشعوب. حروب وانفصالات ومجاعة وكوليرا وإرهاب قاعدي ومناطق نفوذ متعددة وحصار وميليشيات وطائرات مقاتلة تسقط قذائفها فوق رؤوس الفقراء وطائرات مسيرة تصل حتى مدينة الرياض ونزاع على الجزر والحدود والموانئ. وصول جائحة كورونا التي تسللت إلى اليمن من الثقوب الكثيرة أضافت بعدا دراميا جديدا إلى الانقلاب الجديد القديم الذي أعلنه المجلس الانتقالي الجنوبي من أبو ظبي بفرض الحكم الذاتي في عاصمة الجنوب عدن والمحافظات الجنوبية.

تفسير هذه الخطوة لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن المصالح السعودية الإماراتية تباعدت تماما وسار كل منها في طريق، أو أنها خطوة منسقة سلفا مع السعودية وبمباركة منها، كنوع من توزيع الأدوار لفكفكة اليمن وإعادة دولة الجنوب تحت العباءتين السعودية والإماراتية وتقاسم خيراته وموانئه وحقول نفطه. إلا إذا انتصر العقل والوطنية اليمنية وعاد اليمنيون إلى رشدهم ووحدوا كلمتهم وتقاسموا السلطة في دولة الوحدة وركلوا كل من جاء ليفكك بلدهم ويدمر ثرواتهم ويحولهم إلى شعب جائع في بلد مكتنز بالخيرات.

السعودية هي التي تركت القتال بين قوات الشرعية المدعومة سعوديا وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة إماراتيا، يستفحل في آب/أغسطس الماضي وتباطأت كثيرا إلى أن تم توقيع اتفاقية الرياض بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر، غير أن تنفيذها لم ير النور وتجدد القتال مرة أخرى في كانون الثاني/يناير من هذا العام وصولا إلى إعلان الحكم الذاتي يوم الأحد الماضي.

لقد اتضح الآن أن هناك مصالح أعقد وأبعد بكثير من دعم الرئيس الشرعي الضعيف القاطن في فندق في الرياض. لقد تعددت الجبهات والميليشيات وشملت العمليات العسكرية مناطق لا وجود للحوثيين فيها، وتم الاستيلاء على جزر ومحافظات بعيدة عن ساحة الاشتباك، وكأن هناك اتفاقا غير مكتوب لتفكيك اليمن وتقطيع أوصاله حتى لا يعود بلدا موحدا عزيزا سيدا بسكانه المتجانسين المنتمين إلى مرجعية دينية وثقافية وحضارية متشابهة.

أما مسؤولية دولة الإمارات في ما يجرى لليمن من خراب ودمار وتفكيك فهي واضحة تماما. فهدف الإمارات من دخول الحرب لا علاقة له بهزيمة الانقلاب الحوثي، بل بالدفع بمصالح الإمارات التي أصبحت تتصرف كدولة عظمى وعملت منذ البداية على تعزيز وجودها في جنوب اليمن والسيطرة على الموانئ. أنشأت الميليشيات وصرفت عليها الملايين وأقامت لها المعسكرات والسجون ومراكز التحقيق والتعذيب حتى إن هذه القوات منعت طائرة الرئيس هادي من الهبوط في مطار عدن وهزمت قواته عسكريا وطردتها من محيط المطار في شباط/فبراير 2017 وعادت في آب/أغسطس 2018 واحتلت القصر الجمهوري والمقرات الحكومية بالضبط كما فعل الحوثيون في صنعاء. لكن غرق الإمارات في المستنقع اليمني يبدو أنه بدأ يؤثر استراتيجيا على اقتصاد البلاد وسلامتها، فقد قررت من جهة أن تسحب بعض قواتها ومن جهة أخرى تدعم الميليشيات المحلية التي أنشأتها للاستمرار في مخطط التفكيك والانفصال.

الأمم المتحدة والمسألة اليمينة

لقد واكبت الأمم المتحدة المسألة اليمينة منذ البداية، وأصدر مجلس الأمن العديد من القرارات، بعضها تحت الفصل السابع مثل القرار 2140 (2014) لحظر توريد السلاح والانتقال إلى العملية السياسية و2216 (2015) الذي رفض الانقلاب الحوثي ورسم خريطة طريق للحل الشامل. كما أن الأمين العام عين جمال بنعمر مبعوثا خاصا له حول اليمن في نيسان/أبريل 2011.

في فترة جمال بنعمر اعتمدت ثلاث مرجعيات للحل الشامل بإشراف الأمم المتحدة: مبادرة مجلس التعاون الخليجي بتاريخ 21-22 أيار/مايو 2011 والقائمة على نقل السلطة من علي عبد الله صالح إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، ثم اعتمدت آليات تنفيذها بما في ذلك تحديد الفترة الانتقالية والاستفتاء على رئاسة هادي وتشكيل حكومة وفاق وطني والانتقال نحو مؤتمر الحوار الوطني واعتماد دستور جديد. ثم مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي عقد بحضور ومشاركة فعالة من مبعوث الأمين العام بنعمر واستمر عشرة شهور (مارس 2013- يناير 2014). انبثقت عنه وثيقة مخرجات تعد قيمة راقية في حد ذاتها، فتحت بوابات الأمل على أن البلاد في طريقها للتعافي من سنوات حكم صالح الثلاث والثلاثين التي تركت البلاد تمزقها الحروب والانقسامات والأمراض وتدخل الغرباء. كل ذلك انهار بعد قيام الرئيس المخلوع بالتحالف مع جماعة الحوثي الذين استولوا على العاصمة في أيلول/سبتمبر 2014 وتابعوا زحفهم إلى الجنوب وعندما تمكنوا عادوا وقضوا عليه.

اتهمت السعودية بنعمر بأنه منحاز للحوثيين وطلبت استبداله فجاء في مكانه إسماعيل ولد الشيخ أحمد، في ظل موازين قوى مختلفة. لقد أصبح الحوثيون قوة منظمة قادرة على القتال لسنين طويلة بدعم إيراني واضح وبدأت ضرباتها توجع دول التحالف التي كانت تصب غضبها على المدنيين فتدق الأسواق والأعراس والجنازات والمستشفيات والمدارس وضربت حصارا مطبقا على المطار والموانئ الواقعة تحت سيطرة الحوثيين.

استطاع ولد الشيخ أحمد أن يجمع الفرقاء أولا في جنيف وثانيا في الكويت. كان يؤمن بأن الحوار وجها لوجه هو أفضل طريقة لمحاولة كسر الجمود مصحوبا بخطوات صغيرة لبناء الثقة. استمرت حوارات الفرقاء في الكويت عام 2016 نحو 3 أشهر، لكنهم لم يتوصلوا إلى أي اتفاق لحل الأزمة.

اتهم الحوثيون ولد الشيخ أحمد بأنه منحاز للسعودية ودول التحالف. وفي أيار/مايو 2017 تعرض موكبه لإطلاق النار وهو يغادر مطار صنعاء للقاء الحوثيين. حاولت مجموعة مسلحة تابعة للحوثيين أن تمنعه من الخروج من إحدى البوابات وعندما خرج من بوابة أخرى أطلقوا عليه النار لكنه نجا من الهجوم وهو ما دعا مجلس الأمن لإدانة الحادث بشدة. قدم ولد الشيخ أحمد استقالته بعدها ولخص معاناة اليمنيين من جهة وعناد السياسيين من جهة أخرى في خطابه الأخير أمام مجلس الأمن قائلا:

“وأنا أعلن اليوم ولأول مرة، أنه تم وضع مقترح كامل وشامل بالتشاور مع جميع الفرقاء، إلا أنهم رفضوا في الساعات لا بل في الدقائق الأخيرة التوقيع عليه، وقد تبين في نهاية المشاورات أن الحوثيين ليسوا مستعدين في هذه المرحلة لتقديم التنازلات في الشق الأمني، أو حتى الدخول في تفاصيل خطة أمنية جامعة، ما شكل معضلة أساسية للتوصل إلى حل توافقي، ونحن نرى يوميا تقارير تفيد عن مدنيين يموتون من الفقر والجوع والأمراض، ولكن يجب ألا ننسى أن هناك سياسيين من جميع الأطراف يعتاشون من الحروب، وتجارة السلاح، واستغلال الأملاك العامة، لأغراض شخصية، نراهم في خطاباتهم تارة يحركون النعرات لتعميق الشرخ في المجتمع اليمني، وأخرى يعلنون عن مواقف مؤيدة للسلام، بينما نسمعهم في المجالس الخاصة غير آبهين بمعاناة شعبهم. إن من يريد السلام يخلق الحلول وليس الأعذار”.

مارتن غريفيث جاء إلى اليمن في آذار/مارس 2018 من خارج المنطقة العربية ولا يستطيع أحد أن يتهمه بأنه منحاز لأحد. وانطلق من حيث انتهى ولد الشيخ أحمد. لكنه أراد أن يجزئ العمل للوصول إلى اتفاقية شاملة علما أن لا حل في اليمن كما قال إلا “الحل السياسي”. آثر أن يعمل على الوصول إلى اتفاقية جزئية حول ميناء الحديدة والتي لو طبقت ستتلوها اتفاقيات مماثلة حول تعز وغيرها إلى أن تتوفر الأجواء للعودة للمفاوضات الشاملة. وكانت اتفاقية ستوكهولم في 13 كانون الأول/ديسمبر 2018 حول الحديدة والموانئ والانتقال من المدينة إلى المحافظة هي الرهان الذي بنى عليه تفاؤله.

لكن التصعيد العسكري هو الذي ميز عام 2019 بكامله. فقد امتدت الحرب لتشمل مدنا رئيسية في السعودية بما فيها منشآت أرامكو التي تعرضت في أيلول/سبتمبر الماضي لقصف بالصواريخ والطائرات المسيرة. كما أن اشتباكات ثانية بدأت في منطقة عدن عندما قامت قوات المجلس الانتقالي الجنوبي باحتلال المدينة بما فيها القصر الجمهوري وطرد قوات الشرعية بدعم من الإمارات. حاولت السعودية لملمة الأمور في اتفاقية الرياض إلا أن الأمور على الأرض لم تتغير.

عاد غريفيث للعمل على إنجاز خطوات صغيرة لعلها تعيد ترميم بعض جسور الثقة فنجح في إجلاء عدد من المرضى من مطار صنعاء في شباط/فبراير الماضي. وكان يأمل أن يبنى على تلك الخطوة. وفي 23 آذار/مارس الماضي قدم غريفيث مبادرة للطرفين مكونة من ثلاث نقاط: وقف إطلاق النار، إجراءات بناء الثقة وتسهيل المساعدات الإنسانية ثم العودة إلى طاولة المفاوضات. وفي تقريره أمام مجلس الأمن يوم الخميس 16 أعرب عن تفاؤله قائلا: “أعلم أن كلا من الحكومة اليمنية وأنصار الله يريدان إنهاء هذا الصراع على أساس سلام عادل ومنصف. أنا ممتن لهم للغاية من أجل هذا”.

لكن الانقلاب الإماراتي الذي أعلنه رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي من أبو ظبي عاد ولخبط الأوراق وجرف اليمن مرة أخرى إلى تقسيم جديد ومعاناة أعمق في ظل المجاعة والحروب وجائحة كورونا.

لقد أصيب كل مبعوث دولي بحالة من الإحباط. فكلما اقترب اليمنيون من بعضهم البعض تتدخل الأيدي المشبوهة لتعكر الأجواء وتعيد اليمن إلى ساحات المنازلة مرة وراء مرة. فلا نستغرب إذا سمعنا عن قريب انسحاب مارتن غريفيث من المشهد كما انسحب أخيرا غسان سلامة من المشهد الليبي، فأجندات دول التحالف والميليشيات العاملة معها لا تلتقي بالضرورة مع مصلحة الشعب اليمني في استعادة وحدة بلاده وسيادتها وكرامتها.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى