أعداء المجتمع المذبوح!


*محمد فائد البكري

كان يمكن استخدام تعبير كارل بوبر “المجتمع المفتوح وأعداؤه”،لكن ذلك الاستخدام سيكون تعسفا، فليس لدينا مجتمعٌ بعد، فنحن مانزال جماعات أو تجمعات وليس منها جماعة أو تجمَعٌ واحد مفتوحاً أو يحاول أن يكون مفتوحا.
وعلى افتراض أننا صرنا مجتمعاً،فمجتمعنا مشرذمٌ ومفتتٌ وممزق إلى مجتمعات كل واحد منها يمكن أن يوصف بالمقموع والمقهور والمنهوب والمسلوب والمنكوب والمغلوب، والمذبوح… إلخ. ولكن على أي حال لايمكن وصفه بالمفتوح!

بدماءٍ باردة تتضخم كروشٌ وتُبنى عروش و تذبح المواقف المنتصرة للضعفاء والبسطاء وتطفو على سطح الحياة جماعاتٌ من أعداء المجتمع المذبوح، في أزياء عسكرية ووجاهات قبلية و سماسرة دين و سياسة يسرقون المال العام ويجمعون ثروات باهظة، ويكدسون الأرصدة البنكية الهائلة و يفتتحون شركات ضخمة ويصيرون سادة القرار المجتمعي، دون أن يجرؤ أحد على سؤالهم: من أين لكم هذا، ودون أي إمكانية للمساءلة القانونية ودون أن تعمل ممانعة المجتمع على نبذهم ومحاصرتهم وإدانتهم أمام الرأي العام.
وشيئاً فشيئا تتنامى التباينات والتمايزات داخل المجتمع وتنشأ تجاذبات صارخة بين قلةٍ تنهب وتسلب وتترس وتكدس الأموال وتشتري بها الولاءات والذمم والمواقف وأجهزة الإعلام التي تمنحها فرصة الظهور والشهرة.
وبين مجتمعٍ يُجرّف و يُقمع و يزداد فقراً وتهميشا، وتشتد وطأة الفقر والفساد والإفساد عليه، حتى يتحلل وتتفسخ قيمه وعلاقاته وآماله و تعايشه واندماجه، وتُدمر كل قيم المساواة وأحلام العدالة الاجتماعية.

ويأتي جيلٌ لاحقٌ من أبناء الفقراء تتقطع به السبل والآمال ويرى واقعه قائماً على التفاخر والتباهي والتعالي والتكاثر بالأموال والعقارات والمناصب والوجاهات المُصَنّعة بقوة المال، وفي الضفة الثانية يرى الآباء في ضيقٍ وعوز وضنك العيش. فيشرع في المقارنة ويخْلُص إلى أن آباءه بمبادئهم ومواقفهم لايُشكَلون له أي جاذبية أو إغراء في حياته ولا أي نماذج ملموسة للنجاح، فيدير وجهه لهم ولقيمهم الرومانسية و أخلاقهم ومواقفهم ويراها تراثاً استنفد مقومات الحياة و سلوكيات أورثته الفقر.
ونتيجة لذلك ينسرب هذا الجيل من بين يدي الآباء ويدير وجهه لهم ولتاريخهم وثبات مواقفهم. ويرى تضحياتهم مجرد فلكلور عاطفي، ورومانسية عقيمة.
ولأنه جيلٌ مايزال في مقتبل العمر وما تزال الحياة بالنسبة له رغبات و احتياجات مادية، يقرر الاتجاه لما يُمَكّنْه من العيش المادي وكسب المال مُنبهراً بالطفرات المالية وأهلها. ولا يأنف من العمل تحت وصايتها وقيادتها وبما يحقق رضاها عنه ليكسب من ورائها قوته، ويغذي أحلامه التي ما يزال عنفوانها يعميه عن سؤال الجدوى، وعن استشعار الحرج أو المسؤولية!

و حينها يجد الآباء أنفسهم خارج حسابات الأبناء ويغدو تاريخهم بلا أي قيمة أو ثمن! وتزداد الهوة بين الذين ناضلوا وتمسكوا بحرية الرأي والموقف ونزاهة اليد والضمير، وراهنوا بأرواحهم وأعمارهم وبذلوا سنوات الصحة والشباب في سبيل الدفاع عن حقوق المجتمع، وبين الذين استخدموا تاريخ آبائهم للبيع والشراء والمساومة أو على الأقل جعلوه دافعاً لعمل ضد ما فعله الآباء، ويحدث ان يكتفوا به في المناسبات للعظة والعبرة الشخصية من الفقر وسنينه، وبهذا يتلقى جيل الآباء الطعنة ثلاث مرات!
مرةً لأن الكائنات الطفيلية قد التفت على المستقبل وأنتجت ثقافةً جديدة تلفظهم وتحاربهم وتقصيهم وتنبذهم وتسرق إرادة ووعي أبنائهم وتحولهم إلى تابعين و مستخدمين و حُرّاسا لشخصيات انتهازية وقيم استهلاكية رخيصة!

ومرةً لأن الوعي قد أصبح في دائرة المزاد، وتحت رحمة القدرة الشرائية. وبين غمضة عين وانتباهتها ينقلب هرم المجتمع المنشود و تبرز إلى السطح وبالعلن وبكل بجاحة ووقاحة وسفور وغرور فئة الانتهازيين الذين يقدّمون أنفسهم بل ويفرضون أنفسهم – بقوة المال المنهوب من قوت المقهورين – على أنهم حماة الوطن و شرفاء الوطن ووجهاء البلد ويمسكون بزمام الحياة العامة تحت لافتات وشعارات تارة باسم الثورة وتارة باسم الجمهورية وتارة باسم الدفاع عن المجتمع وقيم الأصالة.

وأما الثالثة فلأن الفئة التي كانت أقلية طفيلية- وكان يظنها جيل الآباء طارئةً سيأتي عليها الزمن- قد تمددت على كامل المخيال الجماهيري، لتغدو أكثرية تقود المجتمع، وتنجح في تغيير الأقنعة وتفريخ الشعارات ونهب المال واحتكار السوق وإفساد المجال العام “بالفهلوة”والمحسوبية والاحتيال على القانون، وشراء الذمم والولاءات والمواقف والصحف والقنوات والإذاعات. و قد بنت لنفسها مكانةً ونفوذاً و سلطة ً تضمن لأبنائها -الجيل التالي من الطفيليات من بعدها- الاستمرار في الفساد والإفساد و الاستحواذ والتسلط على المجتمع، ومد نفوذها الغوغائي وتوسيعه زمنيا ومكانيا وثقافيا ونفسيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى