من اشتراكي يحترم المؤتمر الشعبي العام: الوحدة اليمنية بين المجد والإخفاق: قراءة منصفة في إرث الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح

 

✍️ فتحي أبو النصر

-1-

في 17 يوليو، يوم تولي الزعيم صالح الحكم عام 1978، نستعيد ذكرى قائد أسس المؤتمر كحزب وطني جامع. واليوم، والمؤتمر مشظى، فإن مصيره معلق بقدرته على تجاوز الإرث الثقيل والانقسامات، واستعادة روحه الجمهورية التوافقية، ليعود حاملا لمشروع وطني جامع في مواجهة التفكك والوصاية، كما أراده مؤسسه.
وايضا في 17 من يوليو من كل عام، يعود اسم الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح إلى واجهة الذاكرة الوطنية، لا بوصفه مجرد حاكم يمني مؤثر امتد حكمه لأكثر من ثلاثة عقود، بل كفاعل رئيسي في صياغة مسار اليمن الحديث، وفي مقدمته إعادة تحقيق وحدة الوطن في 22 مايو 1990.
فلقد مثلت تلك الوحدة تتويجا لحلم أجيال من المناضلين شمالا وجنوبا، وكانت ثمرة تفاهم تاريخي بين المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني، جسد آمال شعب كان يبحث عن الخلاص من التشرذم والحروب.

..بالتأكيد لا يمكن لأي منصف أن ينكر أن علي عبدالله صالح خرج من رحم البنية العسكرية والاجتماعية لشمال اليمن، لكنه امتلك شجاعة المبادرة في لحظة حرجة من تاريخ البلد، فقاد اليمن وسط ألغام السياسة والتاريخ والجغرافيا. وقد نجح، بمعية قادة اشتراكيين كبار، في إنجاز أبرز تحول سلمي في تاريخ اليمن الحديث: إعلان الوحدة. وتلك كانت لحظة مشرقة وفريدة، لم تُقدر تماما كما يجب.

لكن التاريخ لا يُكتب فقط بالإنجازات، بل بالمآلات أيضا.
وهنا تبدأ المراجعة الضرورية: الخطأ الأول الجسيم تمثل في فتح الباب نحو مشروع التوريث في المفاصل العسكرية، وهو ما ضرب في الصميم روح الجمهورية التي خرجت من رحم ثورة 26 سبتمبر و14 أكتوبر، وكان لا بد أن يكون النظام جمهوريا تداوليا يحترم روح النضال لا دم السلالة.

أما الخطأ الثاني، والذي شكل جرحا غائرا في قلب الوحدة، فكان عدم جبر ضرر الجنوبيين بعد حرب صيف 1994. إذ شعر كثير من الجنوبيين أن الوحدة تحولت من شراكة وطنية إلى ضم بالقوة. فلقد كانت تلك الحرب لحظة قاسية بددت كثيرا من رصيد الحلم المشترك، وتحولت معها الوحدة من قضية عادلة إلى ورقة سياسية تُستخدم لا تُحترم.

اما الفساد، بلا شك، فقد مثل ثالث الخطايا الكبرى التي نمت في رحم الدولة، وامتدت جذوره حتى أضعفت البنية المؤسسية للدولة والمجتمع، خصوصا مع تحالفات مرحلية مع قوى كحزب الإصلاح، الذي فتح على النظام بوابات الهشاشة المزدوجة: التوغل في مفاصل الدولة والفساد الممنهج باسم الدين.

ثم جاء الخطأ الأخطر، التحالف مع جماعة الح.وثي الكهنوتية، التي قامت على نقيض كل ما ناضل من أجله الجمهوريون، بدءا من فكرة الولاية وانتهاء بتحويل الدولة إلى كيان طائفي مغلق. على إن هذا التحالف كان مقامرة مكلفة، دفع الرئيس الأسبق حياته ثمنا لها، حين انقلب عليه من ظن أنهم حلفاؤه، وكان الشعب بأسره هو الخاسر الأكبر.

ورغم كل ذلك، فإن علي عبدالله صالح سيظل رجلا صنع منعطفات كبرى في التاريخ اليمني. نختلف معه أو نتفق، لكن لا يمكن إنكار أنه كان رجل دولة من طراز فريد، عرف كيف يدير التوازنات، ويحفظ خيوط اللعبة في بلد صعب كاليمن. ولو أنه توقف عند حدود الوحدة، أو ما بعد انتخابات 2006 واكتفى بتسليم السلطة سلميا، لربما كُتب له في التاريخ ما لم يُكتب لغيره.
وما أريد قوله بالمناسبة على وجه الخصوص هو إن علي عبد الله صالح لم يكن مجرد فرد، بل تجسيد لمرحلة كاملة من الوعي الجمعي اليمني. إذ كان مرآة تعكس تعقيدات الروح اليمنية، بتناقضاتها وشموخها. فيما اعتزازه بنسبه من ملوك حمير لم يكن فخرا شخصيا فحسب، بل تعبيرا عن انتماء أعمق لأرض تتنفس التاريخ. فالشعب فيه، وهو في قلب هذا الشعب.

أي أن علي عبد الله صالح كان إبن الأرض التي لا تموت، حاكما من طينها ومقدرا بمآسيها. فلم يكن ملاكا ولا شيطانا، بل انعكاسا صادقا لأمة تعبت من الانتظار. فيما جمع في شخصه دهاء السياسي، وحزن الفلاح، وصبر القبيلة.وهكذا رحل كما يرحل وطنٌ من فوق خريطة، وبقي كجُرح مفتوح في ذاكرة اليمن.

-2-

صدقوني إن علي عبد الله صالح لم يكن مجرد رئيس، بل لحظة مكثفة من قدر اليمن. مثل التقاء الحلم بالحذر، والوحدة بالتصدع. عرف دهاليز السياسة بذكاء قروي فطري، وأخطأ كإنسان لا كطاغية.
فيما خصومه قبل أنصاره يدركون أنه كان ابن المعادلة الصعبة جدا إذ لا منتصر دائم ولا خاسر أبدي، بل وطن يتألم من الجميع وللجميع.

وعليه فإنه في زمن التمزق والانقسام، علينا أن نترحم على الرئيس الأسبق ونتأمل بإنصاف تجربته، لا تمجيدا ولا تشويها. فالمؤتمر والاشتراكي كانا معا ركيزتي وحدة عظيمة، ويجب أن يستمرا، ولو بأجيال جديدة، متسامحة و من أجل صياغة مشروع وطني جامع، يُعيد الاعتبار للوحدة كقيمة سياسية وإنسانية، لا كسلطة أو مغنم.
و
رحم الله من ضحى من أجل اليمن، وعاشت اليمن الموحدة، الحرة، المدنية، العادلة.
..ورحم الله علي عبد الله صالح، فقد كان قدرا لا مجرد خيار.
خرج من أعماق الناس، وعاد إليهم كما يعود الصدى إلى الجبل. كما حمل اليمن على كتفيه، وأخطأ كغيره، لكنه لم يخنه. بل حمل اليمن بتناقضاته، وقاد بسيرة تشبه البلاد نفسها: حائرة، قوية، مثقلة. تدور عليها المؤامرات ، لكنه رحل وترك سؤالا مفتوحا: هل نحن من خذله، أم أنه خذلنا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى