إلى روح ابنتي الشهيدة افتهان المشهري – رحمها الله – في أربعينيات استشهادها

بقلم / الشيخ / سلطان البركاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى روح ابنتي الشهيدة افتهان المشهري – رحمها الله – في أربعينيات استشهادها
حين يتهيَّب الوقت من المضي قُدُماً، ويغدو الزمن نفسه شاهداً على ما اقترفته أيدي الإثم والإجرام في حق النقاء .. نفتح نافذة الوجع على مصراعيها، ليتنفس الحزن عمقه وتفيض الذاكرة بندوبها على الورق؛ ففي أربعينية الشهيدة افتهان المشهري، لم تسعفني اللغة بكامل بلاغتها، ولم تكفني محابر العالمِين _ على غير العادة _ وأنا أتحدث عن إبنتنا الشهيدة … تِلْكُم الامرأة التي ولدت من طينٍ صبورٍ وحلمٍ متعبٍ ودمعةٍ لا تجف.. فقد كانت مزيجاً من فجرٍ مشرقٍ ومساءٍ يتهجى استغفار الأمل على أصابع النزاهة والعدالة.
إن الكتابة عنها ليس تأبيناً، بل محاكمةٌ للزمن الهزيل الذي لم يحتمل نقاءها، وإدانةٌ صريحةٌ لواقعٍ يُكافأ فيه الفاسد ويُغتال فيه الشريف.
لقد كانت معنىً حقيقيًّا لوطن أراد أن يتطهر من شوائب المجرمين، وفكرةً أكبر من الموت، ودم ٌ نزيه لا يجفّ على ثرى الوطن، بل يزهر صحوة وضميراً وذاكرةً تأبى النسيان .. ولطالما كانت الشهيدة بمثابة ابنتي؛ كبرت أمامي كما تكبر الفكرة في رأس التاريخ ؛ تنضج بالوعي، وتستعير من التجارب صلابة الموقف ونقاء البصيرة.
وفي كثير من القضايا كانت على تواصل شبه دائم معي، وكانت نِعم الإبنة ونُعم المواطنة المثابرة الشجاعة المخلصة التي لا تخاف في الله لومة لائم؛ وهي تعلم أن الطريق إلى التصحيح الإداري يمرّ عبر ألغام المصالح، ومع ذلك كانت تمشيه بثباتٍ وإيمان، تحمل على كتفيها أمانةً وأحلاماً أكبر من حاضرٍ تآكلته الخيانات والمؤامرات.
إنها شتلةٌ من طينِ المعافر، من تلك التربة التي تفيضُ صبراً وكبرياء، والتي تشهد أنها حفرت حضورها في تضاريسها كما تحفر النقوش السبئية في صخور التاريخ؛ فشبت على النقاء والإخلاص كما تشبّ الجبال على ثباتها، لا تساوم، ولا تجيد ارتداء الأقنعة.
عرفتها منذ بواكير الوعي؛ تتقد في ملامحها شرارة العمل الوطني، حتى غدت فكرةً تمشي على الأرض، تُكمل ما بدأه الأخ والصديق العزيز والدها القنصل محمد أحمد المشهري .. ذلك الرجل الذي ترجم كيف تكون التضحية صفةً قبل أن تكون لقباً.
” الشهيدة افتهان ” وجهاً من وجوه الحقيقة التي لا تُهادن، وصوتاً من أصوات النزاهة التي تأبى أن تُشترى، ولسان حال الموجوعين، وذاكرة المظلومين، وملفاً مفتوحاً في وجه صمتٍ طويل من الخذلان .. تصنع الخير كل الخير ، وتطعم الجائعين باسم الله وحده، تنصف الفقراء، وتكتب الرسائل في وجعٍ صامتٍ إلى الذين غابوا في زحمة الظلم والطغيان.
وحين دخلت أروقة العمل العام، ما كانت وجهاً في صفٍ طويلٍ من الشعارات.. بل قلباً يخفق داخل جسد المؤتمر .. ترفد الجانب النسائي بنخوةٍ تليق بامرأةٍ من صلب تعز، منبت الحضارة ومدينة الثقافة والوعي والعلم، وتعلمت المدينة منها ترتيب النوايا المخلصة، وتعلمت هي من المدينة صبر الطين حين يتشقق بحثاً عن المطر؛ وكما كانت مخلصة لوطنها بكل ما أوتي أهل الأرض جميعاً من إخلاص، كانت مخلصة لعملها التنظيمي أيضا وعملها الإداري في مختلف المواقع التي شغلتها.
وفي وقتٍ وجيزٍ وتحت أقسى الظروف استطاعت الشهيدة أن تحوّل صندوق النظافة والتحسين إلى ورشة وطنيةٍ للنزاهة والإنتاج؛ وفرت الآلات والمعدات، وخلقت فرص العمل، وأغلقت أبواب الجبايات، وأطفأت نيران الفساد التي كانت تترصّد المؤسسة من الداخل .. فلم تمتد يدها إلى مالٍ لا يخصها، ولم تلتفت إلى كرسيٍّ يوماً؛ كانت أرفع من المناصب وأقرب إلى الناس من ظلالهم .. ولكم كنت فخورًا بها، وهي تتقدّم الصفوف في عملية فتح طريق الحوبان، تقود ما تملكه من معدّات بعزمٍ لا يلين، لا تخشى رصاصةً طائشةً، ولا لغمًا غادرًا مخبّأً في الطريق.
كانت في الميدان حيث يختبر الرجال صدق مواقفهم، وفي الحوبان كانت حاضرةً بثباتها، تمكث في المنفذ أيامًا عدّة، تصل إليه مع أولى خيوط الفجر، وتغادره عند غروب الشمس، بكل شجاعةٍ وإباء، وبحرصٍ صادقٍ على أن يُرفع الحصار عن الناس، ويُلتئم شمل أبناء تعز من جديد.
وكم كنت فخورًا بكِ أيضًا، وأنتِ في مدينة عدن تلتقين وزير المالية، رئيس الوزراء الحالي الأستاذ سالم بن بريك، الذي أكرمك وأكرم مدينة تعز بتلبيته لمشاريعك التي تقدّمتِ بها إليه؛ حينها أرسلتِ إليّ صورة التوجيهات والمعدّات التي تم شراؤها تنفيذًا لتلك المشاريع، فبادرتُ بالاتصال بمعالي الوزير لشكره على موقفه النبيل، فكان رده الذي لا أنساه:
“مثل هذه أرسلها وأنتَ مرفوع الرأس، فهي تستحق أن تقف معها كل مؤسسات الدولة.”
لا أرثيكِ اليوم، إنما أرثي هذا الوطن المضرج بالأسى والحزن الأليم.. أرثي نفسي التي فقدت ابنةً عزيزةً، فأنتِ امتدادٌ لهذه الأسرة الكريمة التي عرفت الشرف طريقًا لا يُباع، والكرامةَ مبدأً لا يُشترى .. فقد كنتِ ذكيةً حصيفة، سريعةَ الفهم، حاضرةَ البديهة، كأنكِ وُلِدتِ وفي يديكِ بوصلةُ الأوطان..!
كنتِ عموداً رئيسياً في بيتٍ من المجد، وساريةً من ساريات الكرامة .. أثبتتِ أنكِ من نسلٍ يماني أصيل .. من نسل بلقيس في دهائها، ومن جوهر أروى بنت أحمد في صلابتها، ومن دم تعز في نقائها.
ونعلم جميعاً أنه ما عاد الفقد يعنيكِ لأنكِ تجاوزتِ حدود ترابك الطاهر إلى المعنى الأسمى والأعظم، وصرتِ نداء للعدالة المعلَّقة في سماءٍ رمادية؛ برقاً أضاء للناس دروبهم حين انطفأ الأمل في أرواحهم .. بوصلةٌ تهدينا صراط العدالة المستقيم .. حُجَّةٌ على القانطين .. نبتة صدقٍ أنبتها الله في شق الصخر .. مرآةً نرى فيها ما تبقى من ضميرٍ حي.
لن يهدأ لنا بال، ولن يغمض لنا جفن، إلا وقد تم ملاحقة جميع المجرمين ، والقصاص، وتحقيق الأمن والعدالة لدم الشهيدة افتهان، والشهيد حسين الصوفي، ولأجل كل مظلوم سلبت منه حياته أو كرامته أو ماله.
وستبقى الشهيدة افتهان المشهري، وحسين الصوفي وكل المظلومين منارةً تذكرنا بأنّ الثمن الذي يطالب به الوطن هو عدالةٌ حقيقية، لا إفلات للجناة، ولا صفحًا عن دمٍ سفكته رصاصة جبانة.
وختاماً..
أنتِ الآن الفكرة التي تلاحق جميع القتلة بأرواح الشهداء، والعدالة التي تمشي على أطراف الحلم .. لم تغادري، إنما تمدَّدتِ فينا جميعاً، نهراً من صدقٍ يجرف هذا الوحل وهذا الواقع المأساوي … سلامٌ عليكِ يا شهيدة النزاهة والتصحيح الإداري .. ويا آخر ما تبقى من عدالةٍ في هذا الزمن المفجوع برحيلك.
الرحمة لروح الشهيدة إفتهان ، ولروح الشهيد حسين، ولكل من قضت عليه أيادٍ ظالمةٍ؛ رحمهم الله، ولأهلهم الصبر والسلوان.
رئيس مجلس النواب
سلطان بن سعيد البركاني
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..




