الحرب الأهلية باليمن : علة الديمومة وفشل التسويات

✍️ د / شريفة عبدلله المقطري
أضرار الحرب اليمنية:
خلفت الحرب الأهلية باليمن خلال ست سنوات نزاعات سياسية وطائفية مسلحة بين قوى الحكومة اليمنية الشرعية المدعومة من التحالف السعودي وقوات المليشيا الحوثية المدعومة من إيران وقوات المجلس الإنتقالي المدعوم من الإمارات والجماعات الدينية المسلحة الإخوانية والسلفية التي شكلها التحالف لمواجهة الحوثي إلى حدوث أسوء أزمة إنسانية عالمية بحسب ” مشروع بيانات اليمن” لهيومن رايتس ووتش. أدت الحرب إى خسائر بالآلاف للأرواح المدنية، وأزمة إقتصادية ومعيشية متفاقمة، وتعطيل الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية والأمنية والقضائية، وفقد مئات الآلاف من اليمنيين لمصدر دخل ثابت ، وحرمان صرف المرتبات بشكل منتظم وثابت من عدة سنوات ، ناهيك عن مصادرة الحقوق والحريات والاعتقال التعسفي والإخفاء القصري للمعارضين والناشطين والصحفيين وتصاعد العنف الأسري والعنف ضد المرأة الذي قيد حركتها وارتفاع معدلات الاغتصاب والجرائم والسرقات والانتحار. إن الأضرار التي خلفتها أطراف النزاع المسلح باليمن ترتقي إلى جرائم حرب أنهكت المجتمع اليمني في ظل تجاهل دولي وصمت مطبق.
واجهت اليمن جواً أكثر من (90 غارة جوية) غير مشروعة أصابت مواقع مدنية وسكنية من أصل (20,100 غارة جوية) بقيادة التحالف السعودي الإماراتي لمواجهة المليشيا الحوثية، وبمعدل (12 غارة جوية يومية) فاقت كثافتها الغارات الجوية للحرب العالمية الثانية. تركز القصف شمالاً في الأحياء المدنية والمستشفيات والمدارس والمنازل ولم يسلم منها اصطبلات الخيول بذرائع تخزين الأسلحة والإحداثيات الخاطئة طوال ست سنوات. كما واجهت براً هجمات مدفعية عشوائية وقذائف باليستية وزرع حقول من الألغام البرية والبحرية من قبل المليشيا الحوثية على طول الساحل الغربي باليمن شملت 10محافظات هي: (الحديدة، تعز، البيضاء، الجوف، صعدة، شبوة، الضالع، لحج، مأرب، حجة ) منذ عام 2015م. أدت إلى قتل المئات ومنع ممارسة الحياة الطبيعية والتنقل ووصول المساعدات الإنسانية. كما أفاد تقرير “فريق الخبراء الدوليين والإقليميين البارزين بشأن اليمن”، (فريق الخبراء) التابع للأمم المتحدة بعام 2019، أن جميع الأطراف بل استثناء قام بتجنيد الأطفال اليمنيين دون سن 18 سنة. وفقا للأمين العام، من بين 3,034 طفلا جُندوا خلال الحرب في اليمن، جند الحوثيون 1,049 – 64٪ – منهم.
“ما بعد بعد الحرب الباردة”:
النزاعات المسلحة باليمن تمثل رابع حرب أهلية من الصراعات الداخلية بالشرق الأوسط على غرار سوريا وليبيا والعراق وترتقي نزاعاتها إلى مصطلح الحرب كما يعرفه بيري كاماك: ” عملت على تعريف الحروب على أنها تجاوز عتبة 1000 حالة وفاة سنوية في المعارك والفئة الأوسع من الصراعات عند تجاوز عتبة 25 حالة وفاة سنوية” هذا والذي تعدت احصائياته اليمن بمراحل بحسب تقارير فريق الخبراء والمنظمات الدولية. لقد قسم كاماك وهو يبحث في ضرورات التصدي للحروب الأهلية في الشرق الأوسط التحولات في طبيعة الصراعات الأهلية للشرق الأوسط والنظام العالمي وصنفها إلى ثلاث مراحل:
1- مرحلة الحرب الباردة (1946م – 1991م).
2- مرحلة ما بعد الحرب الباردة (1991م -2011م).
3- مرحلة بعد ما بعد الحرب الباردة (2011م وحتى اليوم).
أظهرت دراسة جيمس فيرون المنشورة في Journal of Peace Research أن جوهر صراعات الحروب الأهلية تعود إلى نزاعات وطنية أو أيدلوجية أو مزيج من الاثنين معاً بمتوسط دام فترة خمس سنوات في عام 1950م إلى فترة 15 عام حتى 2000م ارتفع فيها معدل الصراعات المسلحة لما بعد الحرب العالمية الثانية من عام 1991م. انخفض بعدها بشكل كبير معدل الصراعات الداخلية خاصة بعد حدوث الإبادات الجماعية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة وانخفض معدل الحروب الأهلية إلى 4 حروب أهلية. مالبثت إلى أن وصلت إلى ذروتها من عام 2012م (مرحلة بعد ما بعد الحرب الباردة والتي نعيشها اليوم) بارتفاع معدل الحروب الأهلية إلى 12 حرب أهلية من بينها اليمن إثر تفكك النظام العالمي وعجزه عن حل النزاعات وتوقف عمل البعثات الدولية الأربع للأمم المتحدة التي شكلت في نفس العام.
ديمومة الحرب:
تبين عند تفنيد بعض ملخصات الدراسات السياسية التي تبحث في شئون الحروب الأهلية في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص ، أن هنالك ثلاث مشاكل رئيسية يعزى لها استمرار تلك الحروب وتصاعد حدة الصراعات، ألخصها كما يلي:
أولاً: مشكلة ترسيم الحدود أو (ما يسمى بمبدأ عدم قابلية تقسيم الدولة )
من حسن الحظ أن مبدأ تقسيم الدولة والفصل الجغرافي بحسب مناطق النزاع لايزال مرفوض بقوة ويلقى معارضة إقليمية ودولية شديدة. في المقابل تنتقد الكثير من الرؤى الأكاديمية السياسية فكرة التسويات السياسية المتأرجحة بين الانتصار والهزيمة وتدخلها تحت مبدأ (الحصيلة الصفرية) للحل وإيقاف الحرب. يرى فريد إكلي في كتابه “كل حرب يجب أن تنتهي” Every War Must End، بأنه عند استحالة قبول التقسيم والفصل الجغرافي ، فإنه على أحد الطرفين الحصول على كل شئ، وأكد على استحالة أن يكون هنالك حكومتان لدولة واحدة. ويشتد ذلك في حالة النزاعات الإثنية والطائفية ، لذلك فإن التسويات السياسية التي تسعى للحفاظ على سيادة الدولة تكون غير ممكنة كما يراها بيراك إلا في نطاق انتقال السلطة السياسية عبر تعزيز الحكم المحلي.
لقد فشلت كافة التسويات السياسية باليمن، آخرها اتفاق الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الإنتقالي بسبب الآلية التنفيذية للشق العسكري والسياسي. وسبق ذلك سلسلة من الاتفاقيات أحدها السلم والشراكة مع الحوثيين واتفاق استكهولم والذي لم يكن سوى استراحة محارب ، وهذا يلخص المشكلة الثانية لسبب استمرار الصراع في الحروب الأهلية حد وصف الباحثة باربرا والتر والتي سأناقشها عبر اسقاط مفهوم ( الإلتزام).
ثانياً: مشكلة الإلتزام وفشل التسويات:
نشرت والتر ورقة بحثية هامة بعنوان: فشل المساومة والحرب الأهلية بعام 2009م في مجلة Annual Review of Political Science، تجادل صعوبة منح الثقة لتنفيذ التسوية السياسية بين الأطراف المتحاربة من الدولة نفسها. حيث تؤكد بأن التسوية السياسية لن تنفذ بشكل حقيقي بمعزل عن آلية تنفيذية دولية.
سؤال يفرض نفسه هنا، كيف ستكون التسوية فاعلة عندما تتحول الدولة إلى طرف سياسي بدلاً من كونها السلطة الشرعية للدولة. ففي بلدنا للأسف ، اتخذت الحكومة الشرعية مبدأ التسوية السياسية الذي أهانها وأوصلها إلى أن تكون اليوم طرفا سياسياً يواجه مجموعة متمردة من القوى المسلحة (المليشيا الحوثية في الشمال ، والمجلس الإنتقالي بالجنوب). هذا مايفسر الارتداد إلى الاقتتال لعدم تحقق النصر الكامل. وكنا أمام فرصة لالتفاف دولي وخاصة بعد انعقاد مجلس الأمن الدولي في صنعاء وإمكانية انتزاع قرار تدخل قوات حفظ السلام باليمن بدون تدخل تحالفات غير محايدة، والتي قد تكون أخف أثراً عما يحصل اليوم وأكثر حسماً.
إن التسويات السياسية بالغالب لا تتخذها إلا الحكومات الضعيفة. ولنضيف هنا رؤية تتفق على أن انتهاء الحروب الداخلية يعود لسببين رئيسيين، هما:
1- انتهاء الحرب يتم باحتمال انتصار عسكري يعادل سبع مرات التوصل إلى تسويات سلمية، هذا ما أكدته نتائج انخفاض الصراعات المسلحة في أواخر الحرب الباردة.
2- انتهاء الحرب يتم باحتمال تسوية سياسية يعادل خمس مرات الانتصار العسكري، هذا ما أكدته نتائج تحرك 47 بعثة دولية لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة في مرحلة مابعد الحرب الباردة (1991-2011).
والذي سينظر إلى إمكانية الحل السياسي باليمن هو واهم ، فالحل السياسي باليمن يخل بشرط السيادة والذي بالغالب يكون محفوظ في التسويات السياسية التي تنئى بنفسها عن مبدأ الفصل الجغرافي ، وذلك للأسباب الرئيسية التالية:
1- الحل السياسي باليمن يستدعي تدخل قوات حفظ السلام الدولية المرتبطة بقرار مجلس الأمن.
2- غياب التوافق بين الدول الكبرى بشأن الحروب في الشرق الأوسط عموماً واليمن خاصة.
3- اختلال آليات دعم التسويات في الشرق الأوسط في ظل تصاعد خطر العمليات الإرهابية وتهديد الدول من القاعدة وداعش والجماعات الدينية المسلحة وتنظيماتها الدولية.
4- ارتباط الحل السياسي بالمصالح الإقليمية والدولية المتغيرة ودليل ذلك تغير خارطة التحالفات الإقليمية وفقاً لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
5- التسوية السياسية مع المليشيات الحوثية مرتبط بالملف النووي الإيراني ومصالح الأجندة الإيرانية بالشرق الأوسط.
ثالثاً: مشكلة نقض القرارات:
مشكلة نقض القرارات ترتبط بشكل رئيسي بالتدخل العسكري والسياسي الخارجي في الدولة التي يحصل فيها انقلابات مسلحة. حيث يتم تدويل المشكلات المحلية مما يؤدي إلى عرقلة جهود التهدئة وحفظ أمن وسلام الدولة. يرى ديفيد كانينغهام أن التدخلات الخارجية أياً كانت لأطراف غير محايدة ، ترتبط بأطراف النزاع أو لها مصالح إقليمية معينة تتحول إلى المعرقل الأول للحل نظراً لتبدل التحالفات ودورها في صمود الأطراف المتصارعة. أظهرت دراسة حول اتجاهات الحرب الأهلية والطبيعة المتغيرة للنزاع المسلح ” Civil War Trends and the Changing Nature of Armed Conflict” عام 2017م أن 40% من الحروب المحلية الأهلية تم تدويلها في عام 2015م. هذا ما حصل بالفعل باليمن بعد التدخل العسكري والسياسي للتحالف باليمن بشكل مقصود أو غير مقصود. فقد تم تدويل مشكلتين محليتين قدمتا في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013 هما صعدة والجنوب بعد انقلاب الحوثي في ديسمبر عام 2014م، وأصبحتا اليوم طرفاً بحاضنة دولية في مواجهة مع الدولة نفسها ، وتقود اليوم حكومة سلطة الأمر الواقع بالشمال والجنوب. ويبدو أنها كانت هي الكبوة التي وقع فيها الرئيس هادي عندما استعان بطرف غير محايد. حيث إن من نتائج التدخل العسكري الخارجي لطرف غير محايد يزيد تعقيد فرص الحل والتسوية السياسية ويؤدي إلى رد فعل مضاد أعنف. هذا ماعكسته سجال الحرب باليمن بين الصراع السعودي الإيراني في منطقة الجزيرة العربية.
أضف إلى أن نقض القرارات المرتبطة بالمفاوضات المتعددة الأطراف أو واسعة النطاق تؤدي إلى مقاربات فاشلة يصعب السيطرة عليها في طاولة تفاوض واحدة بين عدد كبير من الأطراف على الأرض وحلفائهم بالخارج. ونجد اليوم اتساع دائرة التغير على المناخ-استراتيجي لليمن فاقم جذور الحرب الأهليه والصراعات الداخلية فيه وتنذرعن فترة مستعصية جديدة بلاعبين دوليين جدد في منطقة الشرق الأوسط.
لذلك، لن تنتهي حرب أهلية في بلدنا وهذا ما يفسر موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد أن تقدم نفسها كطرف محايد أمام العالم ، أظهره حرصها على إيقاف أي تقدم عسكري للشرعية ضد الحوثي وخاصة بعد تعاملها مع الحكومة الشرعية كطرف بسبب التدخل السعودي، وكسب بذلك الحوثي فترة طويلة لتقوية صفوفه عبر تضليل العالم والتحول من جماعة منقلبة إلى سلطة منقلبة. كما أن اليمن تقل أهميتها السياسية والاستراتيجية مقابل سوريا والعراق وليبيبا في عيون الأمريكيين، ولولا ارتباط خطر ما يحدث باليمن كتهديد لمصالح المملكة العربية السعودية لما اهتم بالشأن اليمني.