نيويورك… القلب النابض لأمريكا بين الاقتصاد والسياسة والثقافة

New York

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

في أغسطس 2025، وبينما كانت واشنطن مشغولة بملفات السياسة الخارجية والانتخابات المثيرة التي أعادت الرئيس “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض، كان الحديث في الأوساط الاقتصادية الأمريكية والدولية يتمحور حول نيويورك: المدينة والدولة التي لا تشبه أي مكان آخر في الولايات المتحدة. فسواء تعلّق الأمر بالبورصة في “وول ستريت”، أو الهجرة والثقافة في “كوينز” و”بروكلين”، أو حتى السياسة الداخلية وصراعها مع الحكومة الفيدرالية، تظل نيويورك بمثابة القلب النابض لأمريكا، ومركز ثقل عالمي يجعلها في كثير من الأحيان أكبر من مجرد ولاية.
فمن الناحية الاقتصادية، تحتل ولاية نيويورك موقعًا فريدًا. حيث أن إجمالي ناتجها المحلي يوازي اقتصاد دول كاملة؛ إذ يقدَّر سنويًا بأكثر من تريليوني دولار، ما يجعلها ثالث أكبر اقتصاد على مستوى الولايات بعد كاليفورنيا وتكساس. لكنّ الفارق أن نيويورك، وبالأخص نيويورك المدينة، تعتبر المحرك المالي للعالم كله. فهنا يقع أكبر سوقين ماليين على الكوكب و هما: بورصة نيويورك (NYSE) وناسداك، حيث يتم تداول أسهم أكبر الشركات العالمية يوميًا. إن وول ستريت لا يحدد فقط اتجاه الاقتصاد الأمريكي، بل غالبًا ما يرسم المسار الاقتصادي العالمي. ففي كل مرة يهتز فيها المؤشر الصناعي “داو جونز” أو مؤشر “ستاندرد آند بورز”، يتأثر المستثمرون من آسيا إلى أوروبا مرورًا بأمريكا اللاتينية.
ومقارنةً بالولايات الأخرى، تتميز نيويورك بكونها مركز الخدمات المالية، والتأمين، والعقارات، والإعلام. بينما تعتمد كاليفورنيا على التكنولوجيا والسينما، في حين تكساس على النفط والطاقة. نجد أن نيويورك تجمع بين رأس المال المالي والسلطة الإعلامية. فهي مقر كبريات شبكات الإعلام مثل “نيويورك تايمز”و”بلومبيرغ”، و”وول ستريت جورنال” التي لا تؤثر فقط في الرأي العام الأمريكي بل في النقاش الدولي أيضًا. هذه القوة المزدوجة المتمثلة في المال والإعلام، تجعل نيويورك أشبه بعاصمة غير رسمية ثانية للولايات المتحدة إلى جانب واشنطن العاصمة.
و تجدر الإشارة إلى أن نيويورك ليست مجرد اقتصاد وأبراج شاهقة في “مانهاتن”. بل يعتبرها الكثيرون مختبر للتنوع الاجتماعي والثقافي، فيها يعيش أكثر من 8.5 مليون نسمة يتحدثون ما يزيد عن 200 لغة، يشكل المهاجرون ما يقارب 40% منهم. لا توجد ولاية أخرى بهذا المستوى من التنوع، الأمر الذي يجعلها صورة مصغرة للعالم. ولهذا السبب كثيرًا ما توصف نيويورك بأنها “عاصمة العالم”. فالمطاعم تعكس المطبخ العالمي، والمهرجانات تجسد ثقافات من كل القارات، والجامعات الكبرى مثل “كولومبيا” و”New York University  أو جامعة نيويورك” تستقطب الطلبة من كل مكان.
على الجانب السياسي، تعرف نيويورك تاريخيًا بميلها إلى الليبرالية والديمقراطيين، في تناقض حاد مع ولايات الجنوب والوسط التي تميل للجمهوريين. هي الولاية التي دعمت بقوة الرئيس السابق “باراك أوباما” وساندت “جو بايدن”، وتظل أحد المعاقل الكبرى للحزب الديمقراطي. وهو ما يجعلها أحيانًا في مواجهة مباشرة مع إدارات جمهورية في واشنطن، سواء تعلق الأمر بالهجرة أو الضرائب أو السياسات الاجتماعية. على سبيل المثال: حينما فرضت إدارة ارئيس “ترامب” في ولايته الأولى قيودًا صارمة على الهجرة من بعض الدول، كانت نيويورك من أولى الولايات التي واجهت القرار عبر المحاكم. ويعكس هذا الصراع بين “أمريكا الليبرالية” في نيويورك و”أمريكا المحافظة” في ولايات أخرى، الانقسام العميق داخل المجتمع الأمريكي.
أما من زاوية البنية التحتية، فتواجه نيويورك تحديات هائلة: هي ولاية غنية لكنها تعاني من مشكلات قديمة إذ أنه وفي تفاوت صارخ بين أحياء مثل “مانهاتن” الفاخرة و”برونكس” ترتفع تكاليف المعيشة والإيجارات التي تجعل من الصعب على الطبقة الوسطى الاستمرار في السكن داخل المدينة الفقيرة مقارنة بولايات مثل فلوريدا أو تكساس تعتبر فيها تكاليف المعيشة أقل، فتبدو بذلك نيويورك وكأنها حكر على الأثرياء والمستثمرين. أما شبكة المترو فيها فهي متهالكة، كما وأن دورها كمركز صناعي كان في الماضي يزدهر بالمصانع والموانئ قد يتراجع الى حد كبير.
غير أن قوة نيويورك تكمن تحديدًا في قدرتها على إعادة اختراع نفسها باستمرار. من يلاحظ جيدا يرى أنه وبعد أحداث ال 11 من سبتمبر 2001 التي استهدفت برجي التجارة العالميين، اعتقد كثيرون أن المدينة ستفقد مكانتها. لكن خلال عقدين، تحولت “Ground Zero” إلى رمز للنهوض الاقتصادي وعادت المدينة أقوى مما كانت عليه. و ليست جائحة كورونا عام 2020 ببعيدة: حينما تحولت نيويورك إلى بؤرة عالمية للوباء، توقع محللون أن تنزح الشركات والسكان إلى ولايات أرخص وأكثر أمانًا. لكن ما حدث أن وول ستريت استمر في الصعود، وعادت الحياة الثقافية والسياحية إلى المدينة تدريجيًا، مؤكدةً أن “نيويورك لا تموت أبدًا”.
وفي مقارنة مع باقي الولايات، يظهر أن كل واحدة لديها نقاط قوة مميزة: فكاليفورنيا تعتبر قاطرة التكنولوجيا والإبداع الرقمي، أما تكساس فهي عملاق الطاقة والنفط، في حين أن فلوريدا تعتبر وجهة التقاعد والسياحة، وإن جاز القول إلينوي للتعريف ب “شيكاغو”، فهي مركز الزراعة والتوزيع. لكن نيويورك تجمع بين كل هذه العناصر بشكل متشابك: فهي قوة مالية ومركز ثقافي وعاصمة إعلامية ووجهة سياحية، وكل ذلك يجعلها مختلفة عن أي ولاية أخرى.
اليوم، ومع ارتفاع الدين الوطني وتراجع بعض الصناعات التقليدية، تبقى نيويورك صمام أمان اقتصادي للولايات المتحدة. فإذا انهارت وول ستريت، ينهار الاقتصاد العالمي. وإذا تعثرت حركة البنوك والشركات الكبرى في مانهاتن، تهتز الأسواق من لندن إلى طوكيو. وهذه المكانة المزدوجة المحلية والعالمية، تجعل مستقبل نيويورك ليس شأناً أمريكيًا فقط، بل قضية دولية.
إنها كما يطلق عليها المتعمقون في المعرفة والتعريف بالتاريخ الأمريكي مدينة الدولة وولاية المدينة، حيث يلتقي المال بالثقافة والسياسة بالاقتصاد والماضي بالحاضر. وفي زمن الانقسامات العميقة داخل الولايات المتحدة، تبقى نيويورك بمثابة الجسر الذي يربط أمريكا بالعالم الخارجي ورمزًا لروحها القلقة والمبدعة في آن واحد. فهي الحلم الذي جاء إليه المهاجرون منذ قرون والمختبر الذي يُعاد فيه تشكيل الحلم الأمريكي جيلًا بعد جيل.
المقال ٣: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى