من مذكراتي.. السلسلة التاسعة عشر يهوده

 

✍️ أحمد سيف حاشد

في القرية
كنت صغيرا لا أدري تحديدا بأي عمر كنت، ربما كان عمري دون الثامنة، أو تجاوزتها بقليل.. كان هذا في نهاية الستينات أو أوائل السبعينات من القرن المنصرم..

لأول مرة شاهدتُ بياعا متجولا وراجلا أخبرتني أمي إنه يهوديا.. لم أعد أتذكر إن كان لديه زنارا أم لا، ولكن لازلت أتذكر نحالة جسده، ووجه الطولي الشاحب، ولونه القمحي المائل للصفرة أو البياض.

كان يحمل كيسا مصرورا أبيضا غير ناصع، فيه بعض الأشياء المعدنية المعدّة للبيع، مثل خواتم فضية، وأخراص أذون، وملاقيط معدنية تستخدم لإخراج الأشواك الغائرة في الجسد لاسيما في الأقدام، وأوعية صغيرة وأنيقة يتم وضع الكحل فيها، وكذا “مخاطف” معدنية تستخدم لربط أحزمة الخصر المصنوعة من الجلد وأسلاك معدن الصفر أو النحاس، والتي كانوا يسمونهن في ذلك العهد “محاجش”.

أمي هي من أخبرتني أنداك أن البائع يهودي، وأخبرتني لاحقا أن اليهود كانوا بارعين في صياغة الفضة والنقوش عليها، وبما هو حرفي عموما يتعلق بالمعادن.. لم تنتقص أمي منهم، بل أخبرتني إن اليهود ذو احترافية عالية في صياغة الذهب الفضة والحلي.

كما أخبرتني أن قلة منهم كانوا يقيمون في قرية “الركب”، وهي قرية كان يوجد يقطنها مهمشين “أخدام”، ويهود، وناس عاديين هم أغلب سكانها.

كان الجميع في القرية متعايشين على الأرجح، ولم أسمع عن نشوب صراع أو عراك أو مواجهة مهمة حدثت بينهم في القرية التي غادرها اليهود لا أدري إلى أين! وأندمج بحد ما بعض المهمشين مع المجتمع الذي انتقلوا إليه في المدن، ولاسيما الذين صار لهم وضع اقتصادي جيد.

***

ولا تزال بعض المباني في “الركب” تحمل نمط معماري ينسب الى حقبتهم، ويتناقل الناس اسم “مناحيم” أحد اليهود الذي سكن في منطقة “الركب”، ولازال قبره معروفا إلى اليوم..

وتوجد حكاية عن قيام احد اليهود بسد منفذ عين ماء غزيرة في أحد غيول “الركب” بالنحاس للحد من تدفق الماء، وأغلب الظن أنها مجرد مكيدة أو محاولة للنيل من اليهود، لاسيما أن مثل هذه الحكاية موجودة في أكثر من مكان، ولا نجد يوما نحاسا في عين ماء.

وكلمة “يهودي” في قرانا أو مناطق تنشئتنا ربما نسمعها للإساءة و ذم من تُطلق عليه غير اليهود.

وفي منطقة “صبيح” توجد نجمة سداسية منقوشة على باب معلم اثري لازالت على حالها إلى اليوم.. ويقال أيضا تواجد اليهود في نجد سعدة بالرما، والملاحظ أن “الركب” و “صبيح” و “الرما” وهي مناطق كانت وفيرة بماء الغيول.. ويضيف البعض تواجدهم في منطقة “الحنكة”.

وتوجد في قرانا كلمات عبرية كانت على أيامنا جاريا استخدامها، مثل “خبير” وتعني صديق، و”بخابرك” تعني بأرفاقك أو بسير معك، و “نشروا” تعني ذهبوا أو نفروا، و “يكروا” تعني يؤجروا، وفي المثل جاء “حمار مات بكراه” و”ابسل” تعني أنضج؛ فعندما نضع البيضة بحالها في الرماد والجمر لتنضج، نقول “إبسلها”. وربما هذه الكلمات ترجع في الأصل إلى مصدر واحد.. وتوجد أسماء مناطق لا نعرف أصلها أو معناها مثل “ثوجان” و “عيريم”.

***

(2)
في عدن

بعد أن صرتُ يافعا سمعت أبي وهو ينقل بعض ما طال اليهود من غضب وتنكيل في عدن.. لا أظنه كان شاهد عيان، بل على الأرجح كان ناقلا عن غيره لبعض ما حدث، دون أن أعرف متى حدث ما تم نقله.

أتذكر أنه حكى أن اليهود في عدن تعرضوا لأعمال عنف وقتل ونهب واعتداء.. ومن صور التنكيل وأعمال العنف تلك أن البعض كانوا يضعون قطط في جواني، ثم يتم صب “الجاز” أو البترول عليها، ورميها بعد اشعالها إلى محلات وبيوت اليهود، فتخرج القطط مذعورة وهي تحترق، لتحرق معها البيوت التي يتم رميها فيها، والأماكن المستهدفة بالحريق.

وكان مثل هذا العنف والتنكيل والنهب الموجه ضد اليهود في عدن قد أتى على خلفية ما يحدث في فلسطين أو بشأنها.

الحقيقة لم أعرف هل كان ما نقله أبي قد جاء تحديدا على خلفية تصويت الأمم المتحدة في ديسمبر 1947 على قرار تقسيم فلسطين، والتي أدّت بحسب بعض المصادر إلى مقتل 82 يهوديا، وأتلاف المئات من المنازل والمحلات التجارية والمعابد اليهودية، أم كان بعد إعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 وارتكاب إسرائيل لبعض المذابح ضد الفلسطينيين، واحتدام الصراع العربي الإسرائيلي، أم حدث في ستينات القرن المنصرم.. الحقيقة لا أعلم متى حدث ما نقله أو ما رواه أبي.

***

ما شاهدته عبر التلفاز أو قرأت عنه أو وقعت عليه عيناي من صور عن مذبحة “دار ياسين” إلى مذبحة “صبرا وشاتيلا”، وما جرى من تمييز وعنصرية وتهجير قسري وتوسع استيطاني في فلسطين، وقتل وقمع وتشرد وملاحقة وإفلات من العدالة، أثارت كل مكامني وكُفري وانفعالاتي وتعذيب وعيي وروحي المُثقلة، غير أن هذا لم يحملنِ يوما على الخلط بين اليهودي كإنسان، وسياسات هذا الكيان الصهيوني العنصري والقمعي والاستيطاني المحتل.

لقد بلغ حماسي وجاس تفكيري يوما للاستشهاد في لبنان أو فلسطين في عملية انتحارية مثل تلك التي نفذتها عضوة الحزب السوري القومي الاجتماعي سناء محيدلي في جنوب لبنان، غير أن هذا لم ينتقص من حق شعب يجب أن يعيش بسلام، ولا مكان في الوقت نفسه لأن يكون هذا على حساب شعب أخر يُقتل ويُقمع ويُهجر ويُطرد من دياره، ويُشرد في الأصقاع والمنافي.
الإنسان والسلام والوئام والعدالة والمساواة والحرية والمواطنة هي ما أنشده.. أكفر بالظلم حتى وأن لبس المقدس، أو أدعى الحضارة والتقدم.

كل ما حدث ويحدث لم يدفعني يوما إلى الانحياز للظلم، أو التهوين مما هو مرعب طال أو أرتكب بحق اليهود، وما تعرضوا له من محارق وتهجير قسري وعنصرية واقصى وقمع في أكثر من بلد ومكان في التاريخ.. أنني دوما ما أحاول أن أكون إنسان حيال الظلم أينما كان، ومن أي وجهة أتى.

ولطالما حرصت أن يكون الإنسان وحقوقه المعيار والاعتبار والمقام الأول في التعاطي مع ما حدث ويحدث هنا أو هناك متناي عن العاهات التي تصيب الوعي بمقتل، وتفتك بالوجدان أو تشوهه، وتلوذ بالعصبيات الصغيرة دون الإنسان، ورافضا ومناهضا لكل ما يرتكب بحق الأخر من فظائع وجرائم جسام، واضطهاد وظلم كان كبيرا أو صغيرا، أو هذا ما أظن واعتقد، أو على الأقل ما أروم أن أكون عليه.

***

(3)
في صنعاء

وفي حي مسيك بصنعاء، وحالما كنت ذاهبا إلى بيت قريب لي، كانت الساعة في حدود الثالثة عصرا، شاهدت طفلا ربما عمره لا يتخطى الخامسة عشر سنة.. نحيل البنية.. يلبس قميص أبيض نظيف.. وما كان يميزه أكثر وجود زنارين مهذبين يتدليان من جوار أذنيه.

رأيته وهو يسير بخطى حثيثة تحاول أن تسرع بحياء وخجل، فيما أطفال شعث بقمصان متسخة وجرأة فظة يسيرون وراءه بخطوات قبيحة، وبصراخات تعقب قفاه “يا يهودي اسلم” “يا يهودي أسلم” فيما كان بعض المارة يرمقون ما يحدث بتأييد صموت يدمي القلب، وبعضهم يقف ليرى المشهد بسلبية تثير الاحتجاج.

اندفعت كمجنون لمنع ما يحدث.. بعضهم كان يحاول الالتفاف من جانب الرصيف للحاق بالطفل اليهودي، وأنا أصرخ بزمجرة رعد للحيلولة دون أن يلحقون به، فيما بعضهم كان أكثر جُرأة وهو يحاول أن يقتحم وجودي كحاجز عرضي، وأنا أحاول صدهم بجرأة مضاعفة، واندفاع كاد يتحول إلى عراك، فيما الطفل اليهودي أستغل ما حدث، واطلق رجليه للريح، وتمكن من الفرار والاختفاء.

وبعد حوالي ربع ساعة تذكرت تلفوني، غير أنه كان قد وقع مني أو تم انتشاله.. عدت لنفس المكان لعل وعسى أجد له أثر، فلم أجده ولم أجد للأطفال أثر، فعزّيت نفسي، وقلت فضول إنساني يستحق التضحية، وسأعيد الكرّة مرتين إن عاد ما حدث.

هذا المشهد العارض كشف لي جانبا من المعاناة لطائفة لطالما عانت من الانتقاص والمعاناة والإكراه المجتمعي، والنيل من الحقوق في وسط اجتماعي لا يخلوا من التعبئة على كراهية الأخر بسبب الدين أو المعتقد.. فيما جزء أخر من المجتمع لازال يعيش سلبيته التي لا تخدم إلا ذلك الوعي المشوه، وذاك الانتقاص والكراهية التي يتم تسرّبها أو ضخها إلى وعي الصغار قبل الكبار.

الأسوأ أن تجد نكوص دستوري وتشريعي عن الحقوق التي كانت قد منحت ذات يوم في دستور دولة الوحدة، لاسيما فيما يخص حرية الدين والمعتقد.. وظل هذا التراجع يزداد ويتسع على المستوى الدستوري والقانوني والاجتماعي.

أما اليوم فما يجري على قدم وساق تعبئة المجتمع في بعض منه على الكراهية الفجة والبغيضة، وكيل اللعن اليومي لمواطنين يمنيين كان يفترض أن يكونوا شركاء لنا بالوطن والمواطنة وكل الحقوق.

ذهب اليهود مكرهين عن الوطن إلى غير رجعة، وصارت الكراهية تأكل بعضنا نحن المسلمين.

***

(4)
في عمران

وحالما كنتُ مقيما في “الحصبة” بصنعاء عام 2006 على الأرجح، جاء صديق وزميل وجار غير بعيد، ليطلب مني المساعدة للذهاب معه بسيارتي إلى عمران، مفاجئا اياي بوجود امرأة في العشرينات من عمرها كاشفة الوجه، تلبس عباءة سوداء، جاءت من مدينة بعيدة، وتريد أن تذهب إلى “عيلوم” اليهود في عمران..

حكى لي صديقي قصتها المؤثرة، وحبها لزوجها، وبحثها الكديد عن أمل ترجوه بشغف محتظر، وأخبرني إنها تريد أن تبطل ما حدث لزوجها من سحر وإعاقة لعضوه الخامس.. قبلتُ الذهاب معهم بعد تردد.. كان قبولا لا يخلوا من حرج وخجل.. أقنعت نفسي أن ذهابي إلى عمران سيكون من قبيل رحلة الترفيه وتغيير الجو، وربما أكثر بدافع فضول المعرفة، والتعرف على عمران وخارف، ويهودها..

صديقي كان لديه جُرأة ولسان عذب، وسلاسة وقدرة على الإقناع.. وصلنا نسأل هنا وهناك، ولاحظنا ونحن نسأل ما يثير التوجس، لاسيما وكانت برفقتنا امرأة كاشفة الوجه لا تخلو من جمال ناضح، وطلب لا يخلوا من غرابة هو البحث عن “عيلوم”.. أما المواطنين من الطائفة اليهودية فقد لاحظنا عليهم حذر وتحفظ..

انتقلنا أكثر من مكان حتى وصلنا إلى “حاخامهم” زعيم الطائفة “يحيى يعيش”.. كان واضحا أن خبرنا قد طار ووصل إليه قبل وصولنا عند سؤالنا عنه.. وصلنا إليه وشاهدناه ممدا على سرير فردي متواضع.. كان صدره ورأسه مرتفعا عن بقية جسده الممدد والمغطى بلحاف، لديه زنارين وأنف بارز ولحية بدت لنا تميل إلى اللون الرمادي أو يخالطها المشيب، ووجه يشح بالضمور، وعيون غائرة محاطة بعظمتين مجوفتين..

استقبلنا واستقبل طلبنا بفتور وتحفظ لافت، وحذر أشد، وكلام أقل من القليل، مدعيا أنه مريض، رد بمضمون يفيد أن إجابة طلبنا ليس لديه.. أحسسنا بأننا أخطأنا الرقم والطريق معا.. أفادنا بوضوح أنه لا يفعل شيئا من هذا القبيل، حتى بدينا أمام أنفسنا وكأننا ضباط شرطة سرية نريد استدراجه لاعتراف وخيم..

عدنا بخيبة جواب على غير ما كانت المرأة ترجوه وتبحث عنه، ولكننا عرفنا شذرا من حياتهم هناك.. عرفنا بساطتهم، وتواضع دورهم، وما يعانوه من عزلة وضيم، وبعض حرمان وانتقاص حقوق، وما يعيشوه من قلق وخوف ورعب..

وبعد عام تقريبا قتل “ماشا يعيش” معلم أبناء الطائفة وشقيق “حاخام” الطائفة “يحيى يعيش” – الذي ألتقينا به وتحدثنا عنه – على يد ضابط متقاعد، قرب منزله، وعلل القاتل جريمته بـ “التقرب من الله” أو “التقرب إلى الله”. أعقبها هجرة إلى إسرائيل. وفي عام 2013 تم قتل يهودي أخر هو هارون زنداني، وعلل القاتل ارتكاب جريمته باتهام اليهودي بالسحر، أعقبته هجرة أخرى ليهود اليمن إلى إسرائيل..

وكان لغياب العدالة والأمن والاستقرار، والانتقاص من حقوقهم، ومضايقة المجتمع لهم، وقبلها وأكثر منها كراهية بعض الجماعات الدينية لهم، ونظرتها إليهم، والتضييق عليهم، وغيرها من الأسباب والضغوط دوافعا إرغاميه للبقية الباقية من اليهود لمغادرة وطنهم اليمن إلى إسرائيل وغيرها..

اليوم لم يبق من يهود اليمن في وطنهم غير شخص واحد لا سواه، لازال بقبضة الأمن في المعتقل يعاني الكثير، رغم أن القضاء قد برّاء ساحته، وأمر بالإفراج عنه منذ سنوات، غير أن الأمر لم يتم تنفيذه إلى اليوم.. وبين هذا وذاك كثير من التفاصيل لا يتسع المقام هنا لبسطها.

اليوم أيضا يحدث للفلسطينيين من قبل الصهاينة في فلسطين ليس أقل مما حصل لليهود في بلاد شتى ومن ضمنها بلادنا.. هكذا يتمدد الخطاء وتتناسل الخطيئة في عالم عبثي وبائس.

***

(5)
تقرصوا العافية

في اليمن جرى تهجير اليهود من صعدة إلى صنعاء، وتم أيضا تهجير البعض الآخر من عمران إلى صنعاء، ومن ثم غادر الجميع – باستثناء واحدا منهم لا يزال في االسجن ـ غادروا إلى أوطان أخرى غير وطنهم الذي أحبّوه، بعد أن تحوّل إلى ما يشبه الجحيم مما حملهم على مغادرته باحثين عن وطن أخر أقل نار وقسوة بعد صمود طال، وصبر نفد، ومعاناة لا تنتهي.
صمدوا على نحو خرافي في وجه الظلم والقهر والتمييز.. صمود مديد أكبر من الصمود، وأقوى من الموت.. صمود لا يماثله إلا صمود شعب فلسطين في وجه القتل والظلم والتمييز والاستيطان.

قبل مغادرتهم وطنهم اليمن بعامين تقريباً، كان قد نصحهم أحد قادة المؤتمر، الشريك الصوري في سلطة صنعاء مع الأنصار، ليبيحوا لي عن بعض من معاناتهم ربما بغرض المحاولة لعل وعسى، وربما بقصد النشر.. حدث هذا بعد تهجيرهم القسري إلى المدينة السكنية بـ “سعوان.. جاءوا إلى مكتبي، وحكوا لي قليل من كثير.. “قالوا لي:

في العقيدة اليهودية عندنا مغسل ديني مكون من حوضين ماء، أحدهم مملوء بماء المطر، والآخر ماء عادي تدخله النساء للطهارة بعد الدورة الشهرية، ومتعلق عليه كل الترتيبات الأخرى كالصلاة والحياة الزوجية.. كان هذا في ريده محافظة عمران.

كان لنا بيت ومغسل يتبع فايز الجرادي الذي سافر قبل 12 سنة إلى أمريكا، وكان مفتاح المغسل معنا، ننزل فيه كل 15 يوم.. اقتحمه “الحو..ثيين”.. واحد منهم اسمه أبو ردفان أخذ البيت ومنعنا من دخوله.. حاولنا نتفاهم معه دون جدوى..

قلنا له: على الأقل نريد المغسل، لأنه منعزل عن البيت. ولكنه رفض، وسبنا وشتمنا..
شكيناه فطلبوا منّا اسمه، وقالوا لنا هم سيسحبونه لو يكون من يكون، وأول ما اتصلوا به؛ قالوا لنا: تقرصوا العافية، هذا مشرف أمني وما يقدروا يتدخلوا.

***

وفي المدينة السياحية بـ “سعوان” في صنعاء رحنا لمكتب “أنصارالله” قالوا لنا: سوف يفعلوا لنا مغسل داخل المدينة السكنية، وأعطونا مساحة 4 في 6 متر على سور المدينة، وطلبوا مقابلها إصلاحات في الحديقة.. طبعا هذه المساحة ليست تمليك بل كتبوا في المذكرة إنها تابعه للمنشأة في المؤسسة، ولهم حق التحكم فيها كيفما يشاؤوا، ويحق لأبنا الطائفة اليهودية استخدامها فقط.

رحنا وأحضرنا المهندسين، والمقاول والتصاميم، وجهزنا كل شيء، ولما بدأنا نعمل؛ قالوا يشتوا ملعب في المدينة السياحية بعشرة مليون، فيما كنّا قد اتفقنا معهم نفعل لهم مقابلها إصلاحات زراعية، ونافورة ماء، ولكنهم طلبوا هذا المبلغ كاملاً منا.. طلبنا منهم الالتزام بالبناء، ولكنهم رفضوا، وبين الحين والآخر يهددونا بإخراجنا من المدينة.

رحنا إلى محمود الجنيد وأعطانا تصريح بأن يمنحونا شقة في المدينة السكنية ليتعلم فيها أبناء الطائفة غير أن مدير المؤسسة الاقتصادية رفض، وطلب ألف دولار إيجار الشقة التي يريد أبناء الطائفة أن يتعلموا فيها، فتوقف أبناء الطائفة عن التعليم لأننا ما قدرنا نوفر المكان وفات العام. وفي العام الذي تلاه سجلناهم خارج، واتفقنا مع مركز محو الأمية على أن يعطوهم فرصة يختبروا حق السنة الأولى التي توقفوا فيها عن التعليم، ويبدؤوا مع الطلاب من جديد.

***

أما المُدرِّسة إيمان المهتمة بهم وهي يمنية جاءت برفقتهم وقالت لي:
في المدينة السكنية السياحية توجد حديقة عامة أخذتهم إليها، وحجزت لهم مكان يذاكروا فيه، وأنا في مكان قريب منهم، حتى إذا صعب على أحدهم شيء يرجعوا لي.. مدير المدينة السكنية منعني من أن أدخل عندهم وأدرسهم، وفي كل مرة كان يقول لي: إن عنده توجيهات.. وبعدها جاء الأمن والموظفين حق المدينة. ومنعنا مدير المدينة من الدخول إلى الحديقة أنا والأطفال وطردونا منها.. في البداية كان يقول التوجيهات من الأمن القومي، وعندما تواصلنا مع الأمن القومي قالو مش توجيهاتهم..

وتضيف إيمان: المانع من توزيعهم على مراكز محو الأمية هو أن خروجهم بشكل يومي خوفا عليهم من المضايقات الاجتماعية مثل الصرخة واللعنة.. عندما يخرجوا للسوق ويعرفوا أن الواحد يهودي يلعنوه ويسبوه..

***

اليوم يوجد مشروع قانون في مجلس نواب صنعاء تحت عنوان عريض عن حظر التطبيع، غير أن في تفاصيله ما هو أكثر، ربما السماع أو الترويج لتراثنا الذي وثقه اليهود اليمنيين في وسائل التواصل الاجتماعي أو الترويج لتراثنا الغير موثق لدينا ووثقه يهود يمنيين ممن غادروا وطنهم اليمن مكرهين، يتم اعتباره من قبيل التطبيع الثقافي المجرّم وتتراوح العقوبة بين الإعدام والمؤبد وأقله الحكم بالحبس عشر سنوات..

إننا نعيش عهد نجد فيه غربتنا أكبر منّا، ومن وطن لم يبق منه إلا اسمه، وقد أعتبر بعضنا أغانينا حرام أو مكروه..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى