دور المفكر والمثقف في التصدي لخطاب التطرف والإرهاب وتفكيكه(١)


✍️ أ.د.محمد أحمد علي المخلافي
باحث أول-أستاذ في مركز الدراسات والبحوث اليمني
محام

المقدمة:
يعيش عالمنا العربي اليوم تحت وطأة الحروب الشاملة والجزئية بفعل الهيمنة المريرة لأنظمة الاستبداد، والفساد البنيوي الشامل، الذي طال جميع مفاصل بنيات المجتمع، والسياسة، والمال، وأنتج في سيرورته الطويلة واقع وظاهرة التطرف والتكفير الديني والمذهبي والإرهاب، وهي السمة السائدة اليوم في اليمن، والعراق، وسوريا، والسودان، وتونس، وفلسطين، ومصر، وليبيا والصومال. لكن تتبع مصدر التطرف والإرهاب وجذره الثقافي وخطابه المبالغ في التطرف يظهر أن الجذر سياسي أيديولوجي يتدثر بثوب ديني. ويغطي الإسلام السياسي حروبه ضد شعوبه بشعارات مواجهة الهيمنة الأجنبية، مثل: شعار “الولاء والبراء” وشعار “الموت لأمريكا والموت لإسرائيل”، ويعلنون الحرب على الآخر كل آخر، وتحت هذه الشعارات تشتعل الحروب في عالمنا العربي. لكن الشعارات الأخرى، مثل: “الحاكمية لله” وخطاب ادعاء “ورثة الأنبياء” أو “الحسن والحسين” ترفع الستار الذي تتدثر به تنظيمات التطرف الديني وتكشف عن الغاية الحقيقية للتطرف والإرهاب وجذره السياسي.
تظهر الورقة أن جذر التطرف والإرهاب فكري-سياسي، وغايته احتكار السلطة والثروة بالاعتماد على الفتوى الدينية التي فتحت الباب واسعاً أمام التكفير ونقض التفكير، ونشر ثقافة الكراهية والحقد والثأر.
لقد غذى الفقه المتطرف للساعين إلى احتكار السلطة والثروة والسياسيين الطامحين للسلطة فكرة الجهاد ضد الآخر غير المسلم تحت شعار “الولاء والبراء” بدءً بابن تيمية ومروراً بالوهابية، وأتى حسن البنا ليجعل الأعداء المستهدفين من الجهاد هم كل من لا يكون في جماعة الإخوان المسلمين أو لا يدينون لهم بالطاعة، وبذلك أطر بصورة مباشرة الإسلام بجماعة سياسية.
لقد بدأت فكرة الحاكمية عند أبو الأعلى المودودي في الهند حيث كان المسلمون يواجهون الاستعمار الإنجليزي من جهة والخوف من حكم الغالبية غير المسلمة إذا استقلت الهند (كانت باكستان وبنجلاديش ما تزالان جزءً من الهند). وهكذا كانت حاكمية المودودي في بدايتها موجهة ضد غير المسلمين. ولكن مع مرور الوقت التقطها المتطرفون الإسلاميون، وبخاصة منذ سيد قطب في الحقبة الناصرية، لتقضي بجاهلية المجتمع الإسلامي المعاصر، وبذلك يصبح معنى الإسلام والاسلاميين واحداً وما عداهم جاهليون وكفرة، وانتهت هذه الفكرة المغالية بإباحة الجهاد ضد المسلمين المخالفين في الاتجاه السياسي وفي المذهب.
وهكذا جاء السياسي الطامح حسن البنا ليؤطر الإسلام بحزب سياسي، وبالتالي جعل الحكم حكراً عليه وعلى جماعة الإخوان المسلمين. ثم أتى الفكر السياسي السروري (نسبة إلى الإخواني السوري محمد سرور) بفكرة الجهاد الفردي، ويقوم التنظيم السروري والتنظيمات الإرهابية الأخرى مثل القاعدة وداعش وأنصار الشريعة بتنفيذ الفكرة بالاغتيالات والتفجيرات الانتحارية، وبهذا اتسعت فكرة التكفير إلى التكفير بطريق اللزوم (ليس كفراً بواحاً كما ينص الفقه الإسلامي، بل استنتاج الكفر من تأويلات فكرية متعسفة وسطحية)، فكل فرد ينتمي إلى المختلف الديني أو المجتمع الذي يعتبرونه جاهلياً أو الحزب السياسي المنافس سواء كان دينياً أم سياسياً مدنياً أو تقدمياً، هو كافر مستهدف بالجهاد الجماعي والفردي، أي بالحروب الشاملة أو الجزئية.
تبين الورقة أن تنظيمات التكفير التي تشمل التنظيمات المتطرفة والإرهابية تستند إلى فقه وفتاوى سخرت الدين لإشعال الحروب وإراقة الدماء، وقامت بإحلال الدين محل السياسة، والغاية احتكار السلطة والثروة من قبل ورثة الأنبياء أو الولي الفقيه أو ورثة الحسن والحسين. وهي تنظيمات لا تستحل دماء وأموال الخصوم السياسيين فحسب، بل القيم الأخلاقية والدينية والمجتمعية، وهدر حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وهي قوى تستطيع هدم الدولة، لكنها غير مؤهلة للحكم والبناء، وتستطيع أن تجلب الموت وهي مع الموت وضد الحياة، وبالتالي ضد كل ما هو جميل فيها. فهذه التنظيمات صراحة أو ضمناً تكفر الأدب والفلسفة وعلم الاجتماع والشعر والرواية والسينما والموسيقى وحرية الإبداع وحقوق المرأة والمساواة والجندر، وينسبون إلى هذه الفنون والعلوم أموراً لا وجود لها لاستباحة دماء المفكرين والأدباء والكتاب والفنانين، كنتيجة طبيعية لتكفير كل أنواع الآداب والعلوم والفنون والثقافة والجندر.
هذه نقاط ضعف تعاني منها تنظيمات التطرف وثقافتها وخطابها المتسم بالإقصاء والعنف، فهي إذن نقاط قوة للمفكر والمثقف الفرد والجماعي لمحاربة خطاب التطرف وثقافة العنف.
ولأن الإرهاب عابر للأوطان ومختلط بأرباب سلطة ومال، على مستويات مختلفة، فإن مواجهته تتطلب ائتلافاً واسعاً ليس للمفكرين والمثقفين فحسب، بل وللمثقف الجماعي، وتعاون الدول وأرباب المال الذين يقفون ضد العنف وإيجاد استراتيجية وطنية وقومية تشمل التدابير الثقافية والتربوية والتعليمية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لتجفيف منابع الإرهاب. ودور المفكر والمثقف محوري في نجاح هذه الاستراتيجية، لأنه سينصب على إنتاج ثقافة وفكر يقودان إلى تفكيك ثقافة العنف وخطاب التطرف والإرهاب بجهد ثقافي وتربوي شامل يستخدم مختلف العلوم والآداب والفنون.
تتكون الورقة من هذه المقدمة وأربع فقرات، هي:

  • جذر الإرهاب ومنابعه.
  • البيئة الحاضنة للإرهاب.
  • الخطاب والشعار.
  • فشل الدولة في محاربة الإرهاب-البدائل

جذور الإرهاب ومنابعه:
تعتمد التنظيمات الإرهابية على مرجعين فقهيين رئيسيين وامتدادهما، أولهما بالأسبقية الزمنية، أعمال ابن تيمية وثانيهما الوهابية، وعلى الرغم من أن الوهابية تالية لتطرف فقه ابن تيمية إلاَّ أنها تفوقت عليه بالتأثير ليس بسبب رؤى هذه المدرسة وتطور فقهها، وإنما لسبب خارجي لا يرجع إلى قوتها الفكرية، لأن بنية هذا الفقه جاف وبدوي-صحراوي، ومرد العامل الوحيد لتفوق تأثير الوهابية للدعم المالي للدول النفطية، وهو نفس العامل الذي يقف وراء انتشار التعصب المذهبي الشيعي انطلاقاً من إيران. لكن التطرف الديني للوهابية وقف عند تكفير غير المسلمين والدعوة لمحاربتهم، فأتت المدرسة المصرية ممثلة بسيد قطب لتكفير الجميع وتدعو للحرب عليهم دولة ومجتمع، لأن المجتمع جاهلي، فكانت هذه المدرسة منبعاً فكرياً لتكفير كل المجتمعات، بما في ذلك، الإسلامية منها.
توقفت الوهابية عند الجهاد الجماعي، فأتى التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين في مصر لجعل الاغتيالات وسيلة للوصول إلى السلطة، وأتت السرورية بفكرة الدعوة لـ”الجهاد الفردي”، وكان ذلك منطلق للتنظيمات الإرهابية للقيام بالأعمال الانتحارية والاغتيالات للخصوم السياسيين.
وعلى الرغم من أسبقية مصر في التحديث بين البلدان العربية والإسلامية، فقد بدأت فيها الحركة التنظيمية للتطرف والإرهاب وتطورت وتشكلت، فقامت جماعة الإخوان المسلمين بتفريخ عناصر الحركة التي تشكل منها الحزب الإسلامي، حيث كان الحزب الإسلامي (الحركة الإسلامية/الجماعة الاسلامية) المصدر الرئيس للعناصر الحركية والتنظيمية لنشر التطرف والإرهاب في العالمين العربي والإسلامي.
وكانت باكستان مكان تدريب عناصر الحزب الإسلامي الذين انطلقوا إلى البلدان التي هُيئت لتكون مكاناً آمناً لتدريب المجاهدين، وكان أغلب المجموعة الأولى من المصريين، مثل: سيد إمام عبدالعزيز الشريف، وعلي الرشيدي، وأيمن الظواهري، ومحمد الظواهري، وعصام شعيب محمد، وأسامة صديق أيوب. وكان هؤلاء من المنشقين عن الإخوان المسلمين، ثم شكلوا الجهاد الإسلامي. وكان التمويل من الأثرياء العرب في الخليج ويأتيهم السلاح من السودان وشمال اليمن. وكان اليمن والسودان محطتين رئيسيتين لتجميع المتطرفين من بلدان عربية مختلفة، منها تونس وفلسطين والجزائر والمغرب ومصر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية، وتدريبهم على القتال.
وهكذا فجذور الإرهاب ثقافية-سياسية تتلفع بغطاء ديني استخدمته الأنظمة التسلطية في المنطقة للبقاء في السلطة، واستخدمته الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد المنظومة الاشتراكية وللهيمنة على المنطقة.
وقد استخدمت الأنظمة التسلطية التنظيمات الإرهابية التكفيرية في صراعها السياسي والايديولوجي مع القوى السياسية والاجتماعية اليسارية والقومية، والقوى الاجتماعية والسياسية الحديثة بشكل عام وتوظيف الفكر التكفيري (الجهادي) في الحرب ضدها.
ووجدت الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية في الحرب الأفغانية فرصة سانحة لتحقيق هدفين في آنٍ واحد، السيطرة على الإرهاب والتحكم به، وفي ذات الوقت التخلص من العناصر الدينية المتطرفة، فدفعت بهم إلى الحرب في أفغانستان، وبعد عودتهم من أفغانستان وجدت غاية أخرى لاستخدامهم في الحروب الداخلية، فتم تهيئة ساحات للحرب، وكانت اليمن الساحة الرئيسية لعودة العناصر الإرهابية التي استخدمت في حرب 1994م، وكان العائدون من أفغانستان إلى اليمن يضمون مصريين وتونسيين وجزائريين وليبيين وجنسيات أخرى، ومن اليمن وبعد إنجاز مهمة حرب 1994م جرى إعادة توزيعهم إلى السودان والشيشان والبوسنة والهرسك، بالإضافة إلى من عادوا إلى بلدانهم الأصلية. وبانتهاء تلك الحروب تم إعادة توزيع العناصر الإرهابية في البلدان العربية والاسلامية، وعاد الخلط من جديد للعناصر المتطرفة في صفوف الحركة الإسلامية وأجهزة ومؤسسات الدولة في بعض البلدان مثل: اليمن والسودان.
إذن ترجع موجة الإرهاب الديني في العالمين العربي والإسلامي إلى فترة المواجهة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ولتنميتها التقت إرادتان: إرادة الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى الاستبداد في العالمين العربي والإسلامي، في خلق تنظيمات إسلامية متشددة تعتمد الإرهاب وسيلة لتحقيق غاياتها في احتكار السلطة والثروة أو الاستيلاء على السلطة في البلدان التي كانت خارج هذا التحالف كجنوب اليمن وسوريا والجزائر وليبيا وتونس، فكانت حرب أفغانستان مناسبة لدعم الإدارة الأمريكية يومئذٍ للتنظيمات الإرهابية بهدف مواجهة الاتحاد السوفيتي. والتقت هذه المصلحة مع مصلحة الاستبداد في العالمين العربي والإسلامي لمواجهة القوى اليسارية الاشتراكية والقومية في هذه البلدان.
جزء مهم من تنظيمات التطرف بدأ يتبنى المواجهة مع الراعين للإرهاب عندما بلغ التشدد والتعصب مداه، وبدأ الإيديولوجيون الدينيون يفكرون بعدم الاكتفاء بالشراكة في الحكم، فبدأوا يسعون للاستيلاء على السلطة والثروة، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. واستُخدِم التطرف بوتيرة عالية لإجهاض الثورات السلمية في البلدان العربية، مثل تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والعراق، وكانت قوى التعصب الديني تمثل النسق الأول للثورة المضادة، وتراجعت لكي تمثل النسق الثاني للثورة المضادة في بعض البلدان، بعد أن صارت إيران مصدر رئيسي في تنمية التعصب الديني للاستيلاء على اليمن والعراق، واستخدمت التنظيمات الإرهابية لمنع التغيير، وشعار الحرب ضد الإرهاب لإشعال حروب إيران في المنطقة خاصة: العراق وسوريا واليمن.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى