خيارات تركيا بعد موقف ترامب الانتهازي

 

عبد الحميد صيام

* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي .

 

لقد كانوا (السعوديين) حليفا عظيما في حربنا المهمة جدا ضد إيران. إن الولايات المتحدة مصممة على أن تظل شريكا ثابتا للمملكة العربية السعودية لضمان مصالح بلدنا ومصالح إسرائيل وكل الشركاء الآخرين في المنطقة». هذا ما قاله ترامب بعد أن اطلع على تقرير وكالة المخابرات الأمريكية (سي آي أيه) حول مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
لم يعد خافيا على أحد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصمم على حماية صديقه وشريكه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، من أي مساءلة أو إدانة في جريمة قتل خاشقجي، التي وصفت بجريمة العصر، والتي ما زالت تتفاعل عالميا على كل المستويات، وما زال فصلها الأخير لم يكتب بعد والستارة لم تنزل على خشبة المسرح معلنة النهاية. إن ما بين ترامب وإسرائيل من جهة وولي العهد شيء يفوق العلاقات التجارية بمليارات الدولارات وصفقات الأسلحة والحرب على اليمن والتصدي لمخططات إيران. إن التنازلات التي قدمها محمد بن سلمان أو تعهد بتقديمها في اللحظة المناسبة، في موضوع القضية الفلسطينية خاصة القدس، لا تقاس بالأموال ولا بلغة الأرقام. إنها فلسطين والقدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين وثوابت القضية الفلسطينية الأخرى، التي لم ولن يجرؤ مسؤول عربي على تقديم مثل تلك التنازلات، إما قناعة أو خوفا، إلى أن جاء بن سلمان فسلم جميع أوراقه لترامب مقابل تأييده في أن يكون وليا للعهد.
هل ستبقى تركيا ثابتة على مواقفها؟
لقد أجادت تركيا التعامل مع قضية جريمة قتل خاشقجي. وضعت إستراتيجية مكونة من ثلاثة عناصر: إطلاق معلومات صحيحة بالتدريج، تفنيد الرواية السعودية دائما بالدليل القاطع، وتحشيد أكبر عدد من الدول لدعم الرواية التركية، والاصطفاف خلف مطالبتها بمعرفة الحقيقية حول من أصدر أوامر القتل وجهّز الفريق، ووضع تحت أيديهم كل الوسائل المطلوبة لتنفيذ الجريمة والعودة فورا إلى السعودية، بدون أن يتركوا أي أثر- هكذا ظنوا. لقد نجحت الاستراتيجية التركية إلى حد كبير، فأجبرت السعودية على تغيير روايتها عدة مرات، كي تستوعب الرواية التركية، وأن تقر بعد 18 يوما بالجريمة، وبأنها مخطط لها، وأن الجثة قطعت، لكن الرواية بقيت ثابتة في إبعاد الشبهة عن ولي العهد.
كان هناك تنافس بين السعودية وتركيا على من يكسب الموقف الأمريكي إلى جانبه. لقد نجحت تركيا بمساعدة من الإعلام الأمريكي، خاصة صحيفة «الواشنطن بوست»، أن تجعل قضية خاشقجي قضية رأي عام منحاز في غالبيته الساحقة لوجهة النظر التي تقول بأن ولي العهد وراء العملية. وبعد أن أصدرت وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أيه) نتيجتها التي خلصت إليها يوم الجمعة الماضي 16 نوفمبر/ تشرين الثاني بأن ولي العهد هو الذي أمر بقتل خاشقجي، اعتقد الجميع أن ترامب ومجموعته المصغرة المدافعه عن ولي العهد (كوشنر، بينس، بولتون) باتوا محاصرين من كل الجهات، وليس أمامهم إلا الإذعان. إلا أن الموقف الأخير لترامب بحماية ولي العهد وتبريره بأن ذلك من أجل حماية مصالح أمريكا وإسرائيل أمر منسجم تماما مع أسلوب ترامب في تغليب المصالح على المبادئ.
تركيا الآن في وضع أضعف قليلا، حيث كانت تأمل أن تقف معها إدارة ترامب في إدانة ولي العهد، كمقدمة لإسقاطه، لأن تركيا تحمله مسؤولية تخريب العلاقات بين بلده والسعودية، بسبب طموحاته المجنحة وبحثه الطائش عن زعامة العالمين العربي والإسلامي، يقوم على عزل إيران ومعاداة التيارات الإسلامية جميعها إلا الطبعة السعودية، واحتضان إسرائيل كجزء من منظومة الوقوف في وجه إيران ومخططاتها للهيمنة على المنطقة، وعزل قطر والعمل على الإطاحة بالأمير تميم واستبداله بشخص تختاره السعودية. أمام هذه التطورات نرى أن تركيا أمامها خياران:
الخيار الأول: أن تبدأ هي بمحاكمة كافة المتهمين وتطلب من السعودية التعاون معها انطلاقا من مسؤوليتها، لأن الجريمة ارتكبت على أرضها، ولا مجال للتأويل في الموضوع. فحسب نص المادة 41- بند «1» من الاتفاقية الدولية للعلاقات القنصلية لعام 1963 التي تقول: «لا يمكن إخضاع الموظفين القنصليين للاعتقال أو الاحتجاز الاحتياطي بانتظار المحاكمة، إلا في حالة الجرم الخطير، وعلى أثر قرار من السلطة القضائية المختصة». لا شك أن حجز صحافي ضد إرادته وتعذيبه وقتله في مقر القنصلية، على أيدي مجموعة قتلة أرسلوا خصيصا لهذا الشأن مزودين بكافة الوسائل المطلوبة لتنفيذ الجريمة، يعتبر جرما خطيرا تنتقل فيه مسؤولية المحاكمة من بلد القنصلية إلى البلد المضيف للقنصلية، ويصبح المتهم الرئيسي الدولة نفسها وليس الأفراد فقط. بينما لو قام موظف في القنصلية مثلا وتعرض للصحافي خارج القنصلية وحاول قتله أو قتله فعلا، فقد لا تصنف الجريمة على أنها «جرم خطير» ويمكن حصر المسؤولية في الشخص الفاعل فقط.
على المدعي العام التركي أن يعلن بداية المحاكمة ويطلب من الدولة تقديم كافة المعلومات والوثائق والتسجليات والصور والفيديوهات والتحليلات التقنية والعينات المجموعة من مسرح الجريمة، والشروع في إجراء محاكمة علنية. توجه التهم رسميا للأشخاص الـ15 أو الـ18 الذين ثبت تورطهم في الجريمة، وتتقدم السلطة القضائية التركية من السعودية بطلب رسمي لتحويل هؤلاء الأشخاص للمحاكمة. فإن رفضت السعودية تقوم تركيا بتحويل الطلب للبوليس الدولي (الإنتربول) للمساعدة. كما تقدم للمحاكمة أيضا كافة الأشخاص من حملة الجنسية التركية المتورطين في الجريمة بعلم أو بدون علم والقضاء هو الذي يبرئ وليس السياسيين. وبدون انتظار تحويل الأشخاص المتهمين تبدأ المحاكمة غيابيا وبحضور محامين يمثلون المتهمين. وبعد استيفاء كافة شروط المحاكمة العادلة والنزيهة، وبحضور محامي الدفاع من المتطوعين أو المكلفين بالدفاع عن المتهمين، يتم إصدار الأحكام النهائية بحق المتهمين جميعا، ومن شارك في التخطيط وسهل أو تستر عليها من السعوديين والأتراك وغيرهم، إذا ثبت تورطهم فقد تكشف مجريات المحكمة عن أشخاص آخرين تورطوا في العملية أو لعبوا دورا ما ولو ثانويا.
وللتوضيح نذكر سابقة من هذا النوع بدون أن ترقى لمستوى جريمة خاشقجي: محاولة السلطات الروسية اغتيال الجاسوس السابق سيرجي سكريبال وابنته يوليا في مدينة سالزبيرغ البريطانية يوم 4 مارس/آذار الماضي. لقد نجا الأب وابنته من الهجوم بمادة سامة، لكن المحاولة استدعت جلستين طارئتين لمجلس الأمن الدولي وأعلنت رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، سلسلة عقوبات استهدفت روسيا، بينها طرد 23 دبلوماسياً، وتجميد العلاقات الثنائية، معتبرةً موسكو مسؤولة عن تسميم الجاسوس الروسي السابق على أراضيها، كما حازت الخطوات البريطانية دعماً غربياً كبيراً، حيث اتخذت نحو 20 دولة أوروبية والولايات المتحدة خطوات تضامنية، وأعلنت طرد دبلوماسيين روس وفرض عزلة على موسكو، وهذا تم فورا بدون موت الضحايا وقبل المحاكمة.
الخيار الثاني: تقوم تركيا بتقديم طلب رسمي للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يتضمن طلبا بتشكيل لجنة تحقيق دولية مسؤوليتها كشف المسؤولين جميعهم عن هذه الجريمة، ووضع النتائج بين يدي الأمين العام ليحولها إلى تركيا، التي بدورها تقرر ما إذا ستطلب من الأمم المتحدة متابعة الموضوع وتشكيل محكمة جنائية خاصة بمحاكمة قتلة خاشقجي، على طريقة جريمة اغتيال رفيق الحريري. فقد بدأ التحقيق بطلب لبناني رسمي، موضحا أن منظومة العدالة في لبنان غير قادرة لوحدها على أن تقوم بالتحقيق والمتابعة والمحاكمة، بسبب ظروف لبنان الداخلية. كما قام مجلس الأمن لاحقا باعتماد قرار لإنشاء محكمة خاصة بمقتل الحريري. وقد مرت عمليات التحقيق في عدة مراحل، وحاولت بعض الدول تسييسها إلا أن المحققين في النهاية وضعوا نتائج تحرياتهم أمام المحكمة الجنائية الخاصة، وأصدرت أحكاما ضد أربعة متورطين.
وسابقة أخرى نود أن نشير إليها عندما اغتيلت بنظير بوتو في مدينة روالبندي في باكستان يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 2007، طلبت باكستان من الأمين العام السابق، بان كي مون، أن يساعد في التحقيق في الجريمة، فانصاع الأمين العام بالفعل للطلب وبعث فريقا مكونا من ثلاثة محققين برئاسة السفير التشيلي هيرالدو منوز وعضوية خبيرين أندونيسي وأيرلندي، وقدموا نتائج التحقيق للأمين العام، الذي قام بدوره بتسليمها للحكومة الباكستانية لتتخذ ما تراه مناسبا من إجراءات.
والسؤال الأخير هل ستختار تركيا الاستمرار والمواجهة؟ أم أنها ستعيد النظر في سياستها وتقبل بصفقة ما مع الولايات المتحدة تتضمن تسليم عبد الفتاح غولن، المتهم بتدبير انقلاب صيف 2016 وصفقة أخرى مع السعودية تتضمن رفع الحصار عن قطر ورزمة أخرى من المحفزات؟ نأمل أن نجد جوابا في الأيام المقبلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى