تحوّل خرائط التحالفات… يعيد تعريف القيادة ويختبر الدور الأميركي

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
تبدأ الحكاية من لحظةٍ بدت في ظاهرها اقتصادية وتقنية أكثر منها سياسية: سلاسل توريد تتعثر، رقاقات تُقيَّد، ومعادن نادرة تتحوّل إلى أوراق ضغط، ثم تتضح الصورة الأوسع؛ العالم يتزحزح من اطمئنانٍ أحاديّ إلى تنافسٍ متعدد الأقطاب، وتبدأ خرائط التحالفات ترسم نفسها من جديد على حواف الجغرافيا والتكنولوجيا معًا. لم يولد التحوّل في يومٍ واحد، بل تراكمت بذوره منذ الأزمة المالية العالمية، ثم اشتدّ عوده مع عودة المنافسة بين القوى الكبرى إلى قلب الخطاب الدولي واصطفاف الاقتصادات حول أمنٍ وطنيّ يتكئ على الشرائح الإلكترونية بقدر ما يتكئ على الجيوش.
ومن تلك العتبة الزمنية تسارعت التغييرات كأن التاريخ يركض ليلحق بالمستقبل. عادت الحرب إلى القارة الأوروبية فارتفعت حرارة الضفتين عبر الأطلسي، وتبدّلت معادلات الشمال؛ فنلندا والسويد طوّرتا تموضعهما الأمني ضمن منظومة حلف شمال الأطلسي، وتصلّبت الدائرة حول شرق أوروبا، فيما تحوّل بحر البلطيق إلى معبر نفوذ لا مجرد خطّ على الخريطة. وفي المقابل تمدّد المسرح الهندي–الهادئ كمختبرٍ للغد: تحالفاتٌ مرنة مثل الرباعية تُنظّم جدول الأعمال من الأمن إلى البنية التحتية، وأطرٌ أشدّ صلابة مثل أوكوس تتّجه مباشرةً إلى قلب الردع البحري والتفوق التقني.
لكن التحالف اليوم لا يُقاس بالعلم المرفوع وحده، بل بعدد الترانزستورات ونطاق الترددات. حين انتقلت ضوابط التصدير إلى عصب صناعة الرقاقات وأدوات تصنيعها، دخلت التكنولوجيا صراحةً في معادلة الصداقة والخصومة، وشرعت شركات ودول في إعادة توزيع كُلف المخاطر بين أمن الدولة وسلاسل القيمة. صارت الموانئ والممرات البحرية قرينة مراكز البيانات، وأضحى مركز الحوسبة العالية الأهمية أشبه بقاعدةٍ عسكرية من حيث الحساسية والتأمين.
وعلى اتساع الجنوب العالمي برز «حيادٌ ناشط» يطلب مكاسب ملموسة لا شعارات، فازدادت المساحات الرمادية بين المعسكرات، وتوسّعت تكتلات كبرى كمنصة تفاوض لا ككتلة أيديولوجية صلبة. هنا لا تُحسم الولاءات ببيانٍ صحفي، بل بعقد طاقةٍ طويل الأجل، أو بميناءٍ يُعاد تأهيله، أو بمنطقةٍ صناعية تتلقّى استثمارًا يخلق وظائف اليوم قبل وعود الغد. وكلما طال زمن التنفيذ وتباطأت العوائد، اتّسعت شهية العواصم لبدائلٍ توازن النفوذ بالنقد.
كيف ينعكس ذلك على دور الولايات المتحدة في «قيادة العالم الحر»؟ القيادة في عصر الشبكات ليست خطبةً من منصة، بل منظومةٌ متداخلة الطبقات: ردعٌ واضح ومستدام لا يقوم على السلاح فقط بل على قابلية الإنتاج والتحالف الصناعي؛ اقتصادٌ تحالفيّ يقدّم عوائد محسوسة لشركائه من طاقةٍ نظيفة وبنيةٍ تحتية وتمويلٍ تنموي؛ ريادةٌ معيارية في التقنيات التأسيسية كالذكاء الاصطناعي والاتصالات والأمن السيبراني والتقانة الحيوية؛ تحديثٌ لمؤسسات النظام الدولي بحيث ترى الاقتصادات الصاعدة نفسها داخله لا على هامشه؛ وسرديةُ قيمٍ تُبرهَن بالسياسات الداخلية قبل الخارجية حتى لا يبقى الخطاب منفصلًا عن الواقع.
ومتى تفقد القيادة بوصلتها؟ حين تتحوّل الشراكات إلى محاضرات، وحين يُختزل الأمن إلى قواعد بلا رؤية اقتصاد، وحين يُترك الحلفاء يواجهون كلفة الوقوف دون مظلة تأمين. عندها لا يكفي تدبير اللحظة، بل يلزم بناء «معمار تحالفات» يُغلق ثلاث فجواتٍ في آنٍ واحد: فجوة السرعة بين دورة القرار السياسي ودورة الابتكار التقني، وفجوة الثقة بين وعود الاستثمار وواقع التنفيذ، وفجوة السرد بين لغةٍ أخلاقية عالية ونبرةٍ براغماتية على الأرض.
وهل يمكن للولايات المتحدة ألا تخسر دورها لمنافسٍ قد يفرض نموذجًا يهدد البشرية؟ الخطر الحقيقي ليس في منافسٍ قويّ فحسب، بل في منافسٍ غير مقيّد بقواعد، يطبع المراقبة الشاملة كأمرٍ اعتيادي، ويسرّع تسليح الذكاء الاصطناعي بلا حواجز أمان، ويحوّل الاعتماد الاقتصادي إلى أداة إكراه. كبح هذا المسار لا يتحقق بالقطيعة الشاملة، بل بصناعة «مغناطيسٍ تحالفي» أقوى: سوقٌ واسعة موحّدة المعايير، وصولٌ تفضيليّ إلى المعرفة والبحث المشترك، ضمانات أمنٍ وتقنية قابلة للنقل، وآليات إنذارٍ مبكر ضد الإكراه الاقتصادي، كي يدرك الشريك أن كلفة الانحراف أعلى من كلفة الالتزام.
وعلى المستوى العملي، يترجم ذلك إلى مساراتٍ متزامنة تُدار من دون عناوينٍ صاخبة: تحويل الردع إلى قدرة تصنيعٍ مشتركة في الذخائر والتقنيات ثنائية الاستخدام، ربط اتفاقات الوصول إلى الأسواق بحزم تمويلٍ ومشاريع جاهزة التنفيذ، توحيد معايير الأمن السيبراني وسلاسل التوريد على مستوى تحالفي، قيادة ميثاقات سلامة الذكاء الاصطناعي والعلوم الحيوية بتدرّجٍ يحمي ولا يخنق، توسيع مسارات المواهب والهجرة عالية المهارة كجزءٍ من أمنٍ قومي إيجابي، تحديث أدوات الرد على الإكراه الاقتصادي لحماية الدول الصغيرة قبل الكبيرة، وتوزيع مراكز الحوسبة والطاقة النظيفة تحالفيًا لتقليل نقاط الاختناق، مع إعادة استثمارٍ طويل النفس في القوة الناعمة عبر الجامعات والثقافة وبرامج التبادل.
التاريخ لا يبدّل خرائط التحالفات بضربةٍ واحدة، بل عبر موجاتٍ تتعاقب: اعترافٌ بتحولٍ جارٍ، ثم مؤسساتٌ تُثبّته، ثم سياساتٌ تغذّيه. والامتحان اليوم ليس من الأقوى على رفع الصوت، بل من الأقدر على نسج شبكة التزاماتٍ متوازنة تمنح الحلفاء مكاسب حقيقية وتضع حدودًا واضحة للمخاطر. وفي نهاية المطاف، قد يهمس دبلوماسيّ وهو يغلق حقيبته: ليس التحدي في عالمٍ متعدد الأقطاب، بل في عالمٍ بلا أقطابٍ مسؤولة. وإذا قبلت الولايات المتحدة هذا التعريف للقيادة—شبكةٌ لا قمة منفردة—ربحت هي والعالم وقتًا ثمينًا، وأُرجئ مستقبلٌ خطِر لا يحتاجه أحد.




