أمريكا وإعادة هندسة الاستقرار في الشرق الأوسط والسودان: رؤية متكاملة لسلامٍ إستراتيجي

واشنطن- نيويورك – هيثم جسار – الأمم المتحدة
في عالمٍ تتداخل فيه الملفات الأمنية والسياسية والاقتصادية، لم يعد الشرق الأوسط مجرد ساحة نزاعات محلية، بل أصبح محوراً دولياً ترتبط به مصالح العالم وقواه الكبرى. وفي ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية اليوم برؤية متكاملة تهدف إلى إرساء الاستقرار وتثبيت دعائم الأمن الإقليمي، ومنع الفوضى من التحول إلى موجة إقليمية تهدد مصالح المجتمع الدولي بأسره.
هذه الرؤية الأمريكية، التي تجذّرت عبر عقود من الدبلوماسية والعمل الأمني المشترك مع الحلفاء في المنطقة، لم تعد مقتصرة على الملفات الكبرى التقليدية مثل العراق والخليج وفلسطين، بل امتدت لتشمل مناطق ذات أهمية استراتيجية آخذة في التصاعد، وفي مقدمتها السودان.
السودان.. من ملف محلي إلى ركيزة إستراتيجية
لم يعد السودان شأناً داخلياً منعزلاً. تصاعد التوتر الداخلي، وانهيار مؤسسات الدولة، وانتشار السلاح، فتح الباب أمام احتمالات كارثية تمتد إلى محيطه الإقليمي. وهنا، يبرز الدور الأمريكي باعتباره ضرورة إستراتيجية وليس خياراً دبلوماسياً عادياً.
فالولايات المتحدة تدرك أن انزلاق السودان نحو فوضى شاملة سيخلق فراغاً أمنياً ضخماً في منطقة حساسة جغرافياً، تقع على خطوط الملاحة الدولية في البحر الأحمر وبالقرب من باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم. كما أن هناك خشية من أن يتحول السودان إلى ساحة نفوذ لقوى منافسة على رأسها روسيا والصين، بما يغيّر موازين الأمن الإقليمي والدولي.
رؤية واشنطن: منع الانهيار قبل حدوثه
تكمن فلسفة التحرك الأمريكي في مبدأ واضح:
إدارة الأزمات قبل انفجارها، وبناء الاستقرار بدل انتظار الفوضى.
لهذا تعمل واشنطن على:
• دعم جهود الوساطة وتوحيد القوى السياسية
• الضغط على الأطراف العسكرية للعودة إلى المسار السياسي
• تحريك الجهود الدولية والإقليمية لإغاثة المدنيين ومنع موجات نزوح كارثية
• تأمين البحر الأحمر ومسارات التجارة العالمية
هذه التحركات ليست فقط حماية للسودان، بل تحصيناً للمنطقة من عدوى الصراع التي قد تنتقل لدول مجاورة وتفتح الباب أمام حروب جديدة أو تمدد جماعات متطرفة.
البعد الإقليمي: شراكة أمريكية عربية
التحرك الأمريكي لا يأتي منفرداً، بل يجري في إطار تنسيق واسع مع شركاء إقليميين رئيسيين مثل السعودية والإمارات ومصر.
هذه الدول تمتلك أوراق تأثير حقيقية في السودان، وواشنطن تدرك أن أي تسوية دائمة لا يمكن أن تتم دون حضور عربي فاعل. ومن هنا تتشكل شبكة توازن جديدة تربط بين الدور الأميركي والدور العربي في هندسة مستقبل السودان والمنطقة.
السودان في خارطة الأمن البحري
تعتبر واشنطن السودان جزءاً أساسياً من منظومة الأمن البحري للبحر الأحمر، والذي يشكل العمود الفقري للتجارة والطاقة العالمية.
أي تهديد هناك لا يستهدف الخرطوم فقط، بل يؤثر مباشرة على:
• الملاحة البحرية
• شحنات النفط
• سلاسل الإمداد العالمية
• الأمن الغذائي للدول المرتبطة بهذه المسارات
وهذا وحده كافٍ لجعل الملف السوداني أولوية إستراتيجية في أجندة الأمن القومي الأميركي.
خاتمة
ما يجري اليوم ليس تدخلاً طارئاً، بل هو جزء من رؤية أمريكية طويلة المدى تهدف إلى بناء شرق أوسط أكثر استقراراً، وتحصين مناطق النفوذ الحيوية من مخاطر الفوضى والتدخلات الدولية المتنافسة.
وفي هذا السياق، يبدو السودان حجر أساس جديد في معادلة الأمن الغربي والإقليمي، ومختبراً لنهج أمريكي يسعى لتثبيت السلام ومنع الانهيار قبل وقوعه.
وبينما تتشابك الملفات وتتعقّد الحسابات، تبقى الحقيقة واضحة:
أمن البحر الأحمر والشرق الأوسط يبدأ من استقرار السودان، وواشنطن تتحرك لضمان ذلك، ليس فقط لحماية شعبه، بل لحماية الأمن الدولي برمته.




