“” الأردن والأمم المتحدة… دبلوماسية التوازن بين أزمات المنطقة والتزامات الشرعية الدولية”

 

✍️ زينة بلقاسم

بينما يحاول الحفاظ على استقراره السياسي ودوره التاريخي كجسر بين القوى المتصارعة، يجد الأردن نفسه في قلب معادلة شرق أوسطية متوترة، بين حرب غزة المستمرة وضغوط اقتصادية متصاعدة. و كان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني من أكثر القادة العرب تحذيرًا من خطر امتداد الحرب الإسرائيلية/الفلسطينية إلى المنطقة، مؤكدًا أن غياب حل عادل للقضية الفلسطينية يضع المملكة أمام تحديات وجودية، ليس أقلها مخاطر تدفق اللاجئين والضغط على بنيتها الاقتصادية الهشة أصلًا.
والأردن الذي يُعد دولة صغيرة المساحة والموارد، هو أصلا كبير في رمزيته وموقعه الاستراتيجي: يعيش منذ عقود على التوازن بين الداخل والإقليم ، ومن جهة أخرى يرتبط بمعاهدة سلام مع إسرائيل منذ 1994 تسمى ب”اتفاق وادي عربة”، ومن ناحية أخرى يُعتبر الوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ما يجعله لاعبًا لا يمكن تجاوزه في أي تسوية مستقبلية. وبينما يطالب بحل الدولتين كخيار وحيد لإنهاء الصراع، يجد نفسه محاصرًا بين تعنّت إسرائيل وضعف الضغط الدولي، خصوصًا مع انشغال الولايات المتحدة بملفات أخرى ك”أوكرانيا” و”الصين”.
يمثل الجانب الاقتصادي التحدي الأعمق للأردن، فمنذ بداية الألفية الجديدة، عانى من أزمات مالية متكررة بسبب محدودية موارده الطبيعية واعتماده الكبير على المساعدات الخارجية، خاصة من الولايات المتحدة ودول الخليج. ومع جائحة كورونا 2020 ثم حرب أوكرانيا 2022، ارتفعت كلفة الغذاء والطاقة بشكل غير مسبوق، ما عمّق عجز الموازنة ورفع مستويات الدين العام. ورغم محاولات الحكومة الأردنية تنفيذ برامج إصلاح اقتصادي بدعم من صندوق النقد الدولي، إلا أن البطالة وخصوصًا بين الشباب تظل مرتفعة والفقر يتسع، مما يولّد حالة استياء شعبي تتفجر بين الحين والآخر في احتجاجات اجتماعية.
أما تاريخيًا،فقد عرف الأردن كيف ينجو من عواصف المنطقة: فمنذ حرب 1948 واستقبال مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، مرورًا بالحرب الباردة، وحرب الخليج الثانية 1991، ثم الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وما تبعه من موجات لجوء عراقي، وصولًا إلى الأزمة السورية  لسنة2011 التي أضافت أكثر من مليون لاجئ جديد إلى أراضيه وجد الأردن نفسه،. في كل محطة، أمام ضغوط ديموغرافية واقتصادية هائلة، لكنه نجح بفضل سياسته الحذرة وارتباطه الوثيق بالولايات المتحدة والخليج في منع الانهيار.
لكن اليوم وفي ظل استمرار الحرب في غزة، تبرز المخاوف الأردنية من أن تتحول أراضيه مرة أخرى إلى “منطقة عازلة” لتحمل أعباء الصراع.اذ أن الحديث الإسرائيلي عن “ترانسفير” فلسطيني يثير قلقًا وجوديًا في عمّان، التي ترى أن أي تهجير جديد للفلسطينيين سيشكل تهديدًا مباشرًا لهويتها الوطنية وتوازنها الداخلي. ولهذا جاءت مواقف الملك عبد الله واضحة في المحافل الدولية، رافضة أي محاولة لتصدير الأزمة إلى الأردن.
و مقلب آخر وعلى صعيد السياسة الخارجية، يستمر الأردن في لعب دور الوسيط الهادئ: حيث استضاف خلال العامين الماضيين لقاءات متعددة جمعت مسؤولين أمريكيين وفلسطينيين وإسرائيليين، كما شارك في القمم العربية والإسلامية التي حاولت بلورة موقف موحد إزاء حرب غزة. لكن محدودية نفوذه جعلت دوره يقتصر غالبًا على الاستنكار والتحذير والدعوة للحوارأكثر من القدرة على فرض حلول. لكن ومع ذلك، لا يزال يحظى بمكانة خاصة لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بوصفه “حليفًا مستقرًا” في منطقة مضطربة.
و ، يسعى الأردن اقتصاديًا منذ سنوات لتنويع مصادر دخله عبر الاستثمار في الطاقة المتجددة والسياحة، خصوصًا في “البتراء “و”وادي رم” و”العقبة”، لكن التوترات الأمنية في الإقليم كثيرًا ما تقوض هذه الجهود. وعلى الرغم من توقيع اتفاقيات غاز مع إسرائيل وتوسيع مشاريع الربط الكهربائي مع الخليج للتغلب على المتغيرات و التقلبات يظل اعتماد المملكة على الاستيراد عائقًا أمام استقلالها الطاقي.
أما في السياق التاريخي، فيُعتبر الأردن نموذجًا لدولة صغيرة نجحت في البقاء عبر سياسة “الخطوط الحمراء”. فلا هي ذهبت بعيدًا في مواجهة الولايات المتحدة، ولا اندمجت بالكامل في سياساتها. ولا هي تخلت عن فلسطين ولا دخلت في مغامرات عسكرية. لكن هذا التوازن الدقيق يكاد يصبح أكثر صعوبة في ظل عالم يتغير بسرعة حيث الصراعات الكبرى من أوكرانيا إلى غزة تفرض على الدول الصغيرة إعادة تعريف موقعها ودورها.
اليوم، ومع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2025، يجد الأردن نفسه أمام تحدٍ مزدوج: من جهة التعامل مع سياسة أمريكية أكثر ميلاً للصفقات على حساب القانون الدولي كما حدث مع اتفاقات أبراهام المبرمة خلال فترة رئاسته الأولى، ومن جهة أخرى مواجهة ضغط داخلي متصاعد بسبب الاقتصاد والبطالة. وفي كلا الحالتين، تبدو قدرة عمّان على المناورة محدودة، لكنها لا تزال تملك أوراقًا مهمة: حيث موقعها الجغرافي الحساس واستقرارها الأمني النسبي الى جانب دورها التاريخي في القدس.
خلاصة الأمر يمكن القول أن الأردن، رغم محدودية موارده يظل حجر زاوية في استقرار المشرق العربي. وإذا كان السلام في فلسطين لم يتحقق بعد، فإن بقاء الأردن مستقراً هو بحد ذاته عنصر استقرار إقليمي. لكن مع الانتباه الى أن هذا الاستقرار هو بذاته هش ومشروط باستمرار بتدفق المساعدات الدولية، وبقدرة القيادة الأردنية على الموازنة بين الشارع الغاضب والتحالفات التقليدية ومتطلبات البقاء في منطقة لا تعرف الهدوء.
المقال ١٠: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى