مكتسبات السلام في السودان وجنوب السودان … الى أين المآل؟

نيويررك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
وقفت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الأفريقية،” مارثا بوبي” في جلسة مجلس الأمن في مقر الأمم المتحدة يوم الاثنين الماضي، لتطلق تحذيرًا صارخًا بأن ما تحقق من مكتسبات في عملية السلام بجنوب السودان يتعرض لتآكل مستمر. حمل صوتها مزيجًا من القلق والإصرار، إذ أوضحت أن تصاعد العنف السياسي وتباطؤ تنفيذ الاتفاقات الموقعة يهددان بالعودة إلى مربع الحرب، بل وبانفجار مشهد أعقد من أي وقت مضى إذا استمرت الانقسامات العرقية والسياسية على هذا النحو. لم تكن جاءت كلماتها التي لم تمن جديدة من حيث المضمون في لحظة حرجة، حيث تتلاقى الأزمة الإنسانية مع الجمود السياسي في بلد لا يزال يواجه هشاشة الدولة بعد أكثر من عقد على استقلاله.
لكن يجب التنويه لمن لا يعرف حالة الصراع السوداني بأن القصة لم تبدأ هنا. بل إن جذورها تعود إلى عقود طويلة من الصراع في هذا البلد الكبير، الذي كان ولا يزال مسرحًا لتجاذبات محلية وإقليمية ودولية. فمنذ الاستقلال عام 1956، واجه السودان حربًا أهلية طويلة بين الشمال والجنوب. انتهت أولى مراحلها باتفاقية أديس أبابا عام 1972والتي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا محدودًا، لكنها لم تمنع تجدد القتال في الثمانينيات. ومع صعود الحركات المسلحة وتزايد الاستقطاب الديني والعرقي، دخلت البلاد في حرب أهلية ثانية أكثر دموية استمرت حتى توقيع “اتفاقية السلام الشامل” عام 2005 برعاية إقليمية ودولية. وقد مهدت هذه الاتفاقية الطريق أمام استفتاء 2011 الذي أفضى إلى انفصال جنوب السودان، ليصبح أحدث دولة في العالم.
غير أن ولادة الدولة الجديدة لم تحمل معها السلام الموعود، بل سرعان ما اندلعت حرب أهلية داخلية عام 2013 بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار، لتتحول إلى صراع دموي ذي بعد قبلي، أوقع عشرات الآلاف من القتلى وملايين النازحين. فتدخلت الأمم المتحدة بقوة عبر بعثة “يونميس” ثم “يونميس” المعدلة، وحاولت رعاية اتفاقات متتالية لوقف إطلاق النار، لكن الانقسامات السياسية حالت دون تنفيذ معظمها. وفي 2018 تم التوصل إلى اتفاق سلام جديد برعاية “إيغاد” الافريقية ودعم من الأمم المتحدة، لكنه ظل هشًّا وقابلًا للانهيار. واليوم ومع تحذيرات الأمم المتحدة، يبدو أن ذلك الاتفاق يدخل مرحلة حرجة تهدد مستقبل الدولة الوليدة.
أما السودان الأم، فلم يكن حاله أفضل. ففي الغرب، اندلعت حرب دارفور عام 2003 والتي وُصفت بأنها إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في مطلع القرن الحالي. حاولت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي مجتمعين احتواء الأزمة عبر بعثة “يوناميد”، لكن الانتهاكات الواسعة والاقتتال بين الحركات المسلحة والحكومة جعلت تحقيق السلام صعبًا. وعلى مدى سنوات، استمرت مفاوضات واتفاقيات جزئية لم تنه معاناة المدنيين.
وجاء عام 2019 ليكون نقطة تحول، مع سقوط نظام عمر البشير بعد ثلاثين عامًا من الحكم وصف بالدكتاتوري، إثر ثورة شعبية عارمة طالبت بالحرية والسلام والعدالة. فتشكل مجلس سيادي انتقالي بدعم أممي وإقليمي، وبدأت مفاوضات مع الحركات المسلحة فيما عُرف باتفاق جوبا للسلام عام 2020. لكن الصراع على السلطة سرعان ما طغى على المشهد، ومع حلول عام 2023 انفجرت مواجهة دامية بين الجيش وقوات الدعم السريع المنشقة عنه، أعادت البلاد إلى أجواء الحرب الداخلية، ودمرت البنية التحتية وشرّدت الملايين، فيما عجز مجلس الأمن عن فرض وقف شامل لإطلاق النار بسبب الانقسامات الدولية.
وإذ يحذر اليوم مسؤولو الأمم المتحدة من انهيار مكتسبات السلام في جنوب السودان، تتكشف صورة مزدوجة للسودانيين: بوجود شمال غارق في حرب داخلية جديدة تقوّض أي أمل في انتقال ديمقراطي، وجنوب يترنح بين اتفاق سلام هش وأزمة إنسانية طاحنة. ففي الجنوب وحده يواجه أكثر من 7.7 مليون شخص مستويات خطيرة من انعدام الأمن الغذائي، مع تراجع تمويل خطة الاستجابة الإنسانية إلى أقل من الثلث المطلوب، ما يترك الملايين دون مساعدات منقذة للحياة. أما في الشمال، فقد أدى الصراع بين الجنرالات إلى انهيار الاقتصاد، وتفكك النسيج الاجتماعي، وتزايد التدخلات الإقليمية.
وبالنظر إلى المشهد السوداني، شمالًا وجنوبًا، يكشف الدرس ذاته الذي تكرر في تجارب دول أخرى: أن الاتفاقات الموقعة لا تكفي ما لم تُترجم إلى التزامات حقيقية على الأرض، وأن الأمم المتحدة مهما بذلت من جهود تبقى مقيدة بخلافات القوى الكبرى داخل مجلس الأمن. وفي الوقت الذي يتساءل السودانيون عن مصير وطنهم، يظل المجتمع الدولي يراوح بين التحذير والانتظار، دون قدرة واضحة على وقف النزيف.
لكن يبقى السؤال الأهم الذي يطرح نفسه اليوم وكل يوم: هل يمكن أن يعود السودانان (السودان وجنوب السودان) إلى طاولة حوار حقيقية تُخرج شعبيهما من دائرة العنف؟ أم أن الانقسامات العرقية والسياسية ستظل تبتلع كل فرصة لبناء سلام مستدام؟ في حين أن التحذير الأممي الأخير لم يكن ولن يكون سوى جرس إنذار جديد في سلسلة طويلة من الإنذارات، بينما تُثبت التجربة أن تجاهلها قد يقود إلى انفجار جديد، لن يقتصر أثره على وادي النيل وحده، بل سيمتد إلى الإقليم بأسره.