“مصر وإثيوبيا: صراع المياه بين حق الحياة وحق التنمية”

زينة بلقاسم

 ✍️ زيتة بلقاسم

منذ سنوات طويلة ظل نهر النيل شريان حياة لمصر وحقا تاريخيًا تحرص على صيانته منذ أقدم العصور. لكنها اليوم تقف وأديس أبابا على مفترق طرق جديد بعد أن أعلنت إثيوبيا عن اكتمال المرحلة الخامسة من ملء سد النهضة في خطوة وُصفت من جانب المسؤولين المصريين بأنها “تحدٍ وجودي”، فيما تراها إثيوبيا حقًا سياديًا ومشروعًا قوميًا لا رجعة عنه. وبينما تتأرجح المفاوضات بين شد وجذب، وتصدر بيانات من مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي تدعو إلى التهدئة والحلول التفاوضية، فإن الأزمة باتت تعكس توازنات معقدة تتجاوز مسألة المياه إلى صراع على النفوذ، والسيادة، والدور الإقليمي في القرن الأفريقي والشرق الأوسط.
تصر القاهرة على أن أي مشروع على نهر النيل يجب أن يراعي الاتفاقيات التاريخية التي نظمت حصص المياه خصوصًا اتفاقيتي 1929 و1959، واللتين منحتا مصر نصيب الأسد من مياه النيل باعتبارها دولة المصب. وترى أن هذه الاتفاقيات ليست مجرد أوراق قديمة، بل أساس قانوني راسخ في القانون الدولي لمجاري الأنهار. في المقابل، تؤكد إثيوبيا أن تلك الاتفاقيات “جائرة” لأنها أُبرمت في ظل حقبة استعمارية ولم تكن طرفًا فيها، وأنها تملك الحق في استخدام مواردها الطبيعية لتوليد الكهرباء والتنمية، خاصة وأن أكثر من 60% من سكانها كانوا يعيشون لعقود دون كهرباء كافية.
ومع بداية مشروع سد النهضة عام 2011، دخلت العلاقات المصرية/الإثيوبية مرحلة جديدة من التوتر. شهدت السنوات الأولى محاولات للتوصل إلى تفاهمات عبر وساطات متعددة، شملت الولايات المتحدة والبنك الدولي عام 2019–2020، وكذلك الاتحاد الأفريقي الذي تولى زمام الوساطة لاحقًا. لكن انتهت كل جولات التفاوض إما إلى بيانات عامة تدعو إلى استمرار الحوار أو إلى خلافات جديدة حول قواعد الملء والتشغيل.
دخلت الأمم المتحدة بدورها على الخط في 2021 عندما عرضت مصر والسودان ملف السد على مجلس الأمن، الذي اكتفى آنذاك بدعوة الأطراف إلى استئناف المفاوضات “بحسن نية” تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، دون اتخاذ قرارات ملزمة. هذا العجز عكس الانقسام بين الدول الكبرى، حيث رأت الصين وروسيا أن القضية “إقليمية أفريقية” بحتة، بينما دعمت الولايات المتحدة موقف الوساطة لكنها لم تمارس ضغطًا فعّالًا على إثيوبيا، خوفًا من خسارة نفوذها في القرن الأفريقي لصالح بكين أو موسكو.
واتضح على مدى السنوات الأخيرة أن الأزمة ليست مجرد خلاف فني حول جدول زمني للملء أو آلية لتبادل المعلومات. بل تحولت إلى ورقة سياسية بيد كل طرف. فبالنسبة لإثيوبيا يمثل السد مشروع القرن و”رمز النهضة”، ورهانًا على تحويلها إلى قوة اقتصادية إقليمية قادرة على تصدير الكهرباء لجيرانها. أما لمصر، فهو تهديد وجودي يهدد أمنها المائي والغذائي، إذ تعتمد القاهرة بنسبة تتجاوز 95% على مياه النيل، وأي خلل في تدفق المياه يعني ضغطًا هائلًا على الزراعة والاقتصاد والأمن القومي.
اقتصاديًا، دفعت الأزمة القاهرة إلى تسريع مشروعات تحلية المياه وإعادة تدويرها، إضافة إلى خطط طويلة الأمد لترشيد الاستهلاك الزراعي. لكنها خطوات مكلفة لا تستطيع تعويض النقص الكبير في حال حدوثه. وفي الوقت نفسه، وضعت الأزمة إثيوبيا في موقف صعب أمام المجتمع الدولي، إذ أن إصرارها على الملء الأحادي أعطى انطباعًا بعدم احترامها لمبدأ “عدم الإضرار بدول المصب”، وهو مبدأ راسخ في القانون الدولي للأنهار.
وعلى الصعيد الإقليمي أصبحت قضية السد جزءًا من معادلة النفوذ، فلجأت مصر إلى تعزيز علاقاتها مع السودان ودول الخليج وحتى بعض القوى الأوروبية لتكوين جبهة دبلوماسية داعمة. بينما اعتمدت إثيوبيا على دعم داخلي واسع للسد، وسعت إلى كسب تأييد الاتحاد الأفريقي باعتبارها دولة مقر الاتحاد في أديس أبابا. وفي الخلفية لعبت قوى كبرى مثل الصين دور الممول والداعم لمشاريع البنية التحتية في إثيوبيا، مما جعل أي ضغط اقتصادي غربي على أديس أبابا أكثر تعقيدًا.
ومع كل جولة تفاوض جديدة، تزداد القناعة أن الحل لن يكون تقنيًا فحسب، بل سياسي بامتياز. ففي حين تطالب القاهرة باتفاق ملزم قانونيًا يحدد حصص المياه وقواعد التشغيل، ترفض إثيوبيا أي التزام قد يُقيّد “حقها السيادي”. وبذلك يظل الجمود سيد الموقف.
واليوم ومع دخول الملف مرحلة أكثر خطورة بعد إعلان اكتمال المرحلة الخامسة من الملء، تبرز أسئلة كبرى حول المسار المقبل: هل ستلجأ مصر إلى خطوات أكثر حدة دبلوماسيًا أو حتى خيارات أخرى غير معلنة؟ وهل ستستطيع الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة أو حتى الاتحاد الأوروبي فرض صيغة تسوية عادلة؟ أم أن الأمر سيبقى رهن موازين القوة الإقليمية وميزان الردع السياسي؟
وبذلك يعكس الصراع المصري/الإثيوبي حول النيل في النهاية صدامًا بين حقين: حق مصر في البقاء وحق إثيوبيا في التنمية. وبين هذين الحقين تقف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عاجزين عن فرض حل، كما كان الحال في أزمات مشابهة. ومثلما أظهرت التجارب من البوسنة إلى فلسطين مرورا بالسودان وليبيا وغيرهم، فإن أي اتفاق لا يحظى بشرعية دولية ملزمة سيظل هشًا.
وهكذا تبقى أزمة سد النهضة مرآة لتوازنات معقدة: مياه تتحول إلى أداة نفوذ وتنمية تتحول إلى ورقة ضغط ومجتمع دولي يكتفي بالبيانات. فيما يظل ملايين المصريين والإثيوبيين على ضفتي النيل في انتظار تسوية عادلة، قد تأتي أو لا تأتي، لكنهم يعرفون أن الصراع حول النهر لن يكون مجرد صفحة عابرة في تاريخ المنطقة، بل فصلًا ممتدًا في معركة الوجود والسيادة.
المقال ٩: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى