حرب وحصار وعقوبات ..

 

✍️ أحمد  سيف حاشد

أستنكر العقوبات الجماعية واستنكر أكثر من يتخذها.. أشعر أنها تهين وجودي وتستفز مشاعري على نحو بالغ.. تصلب العدالة وتعمم الظلم الغشوم، وتداهمني بعارم من خيبة وكآبة، وتشعرني إن هذا العالم مرعب وبشع..

العقوبات الجماعية التي تطال الأبرياء تأجج داخلي مشاعر من الرفض والاحتجاج.. تفرض على وجودي القبول باستنكار ومضض لا حدود له، وربما بأسف يشبه الموت.. أجد نفسي منفذا لها وتحت طائلتها مُكرها ومرغما، وما أشد الإرغام على حر لا يقبله..
هذه العقوبات تزدريني وتهين إنسانيتي على نحو قاس.. لا أستطيع نسيانها مهما تقادم عليها الزمن وتباعد.. تصيبني بجرح عميق في أغوار الروح.. أشعر أنها تستخف بعقلي وتزدري كرامتي، وتسحق ما بقي لي في هذا العالم من احترام أمام نفسي إلى الحد الذي أأثر فيها عدمي على وجودي.. تهدر ما بقي لي في هذا الوجود من منطق ومعقول وممكن.. يغرقني إحساسي وشعوري بأنها تستبيح وجودي وتتملكه وتستعبده..

العقوبات الجماعية خارجية كانت أو داخلية تكشف فساد ضمير من يفرضها، وتعرّي همجية متخذها على نحو ليس فيه شك ولا عليه غبار.. تكشف عن غرور وكبر وغطرسة وجشع تطرّف وتمادى.. إنها عقوبات تُنكل بنا وبالحياة والوجود كله.. تستبيح ما بقي لنا من عزّة وكرامة.. تزدري وتهين استحقاقنا هذه الحياة، وحقنا في البقاء الآدمي..
هذه العقوبات الجماعية داخلية أو خارجية تكشف لنا الغابة البشرية التي نعيشها ومدى توحشها.. تنتعل العدالة التي لطالما بحثنا عنها في الآماد والأقاص البعيدة.. تخنق أحلامنا وما كنّا نروم من فضاءات الحرية التي تضرب باعها خلف المدى..
***
بين الأمس واليوم مفارقة لا تتسع لوصف أو خيال.. اليوم وفي زمن هذه الحرب الباذخة بالدم والموت والابتزاز العريض والمتسع، أعيش ألم بلغ مداه.. يشقني، ويشق الأرض التي أقف عليها نصفين.. ألم بالغ يشبه ألم قتلي بوحشية صارخة وسادية مرعبة..
الحصار الخانق والعقوبات الجماعية يتم فرضها على الأبرياء بذنب من يستحق العقاب، فيما القاعدة القانونية المشهورة تقول: “خير للعدالة ان يفلت الف مجرم من ان يدان برئ واحد” غير أن القانون الدولي غاشم وظالم.. ينقلب على هذه القاعدة القانونية رأسا على عقب، ويحيل الحق البيّن إلى باطل محض وظلم غشوم..
اليوم تصلبنا الحرب وأقدارها على جدار الفاقة والجوع والمجهول وهي تقهقه.. تبقر بطن السماء وتجهض آمالنا قبل الولادة.. تستلذ الرقص على الجراح الغائرة.. خوازيق تخترقنا من أدبارنا وتفجر رؤوسنا بأسنتها الحداد.. تستمري ما ترى، وتفضل إعادة المشهد مرتين.. تصطلينا بجحيمها وتحرق أشرعتنا وسفننا ومرافئنا وظلالنا، وتزف أحلامنا إلى الجحيم..

هذه الحرب لا تأكل نفسها بل تأكل أكبادنا وكل عزيز.. وطن لطالما بحثنا عنه فوجدناه يتمزق ويحترق في نكبة تطاول عهدها، وحرب لا تريد أن تضع أوزارها.. وطن منكوب بالحرب وأطرافها وإقليمها ورعاتها حتّى بات مسرح مرعبا كل يصفّي حساباته فيه.. جسد منهك وممزق يحتاج إلى كثير من الرفق واللين، ولا يحتمل مزيدا من الثقوب والرصاص والأوجاع.. نبحث عن عالم عادل فلا نجد إلا غياب موحش وفقدان مهول.. ظلم على ظلم، وظلمات فوق ظلمات..
***
ما نراه بأم العين أن ثلاثين مليون إنسان يجري حصارهم ومعاقبتهم وقصفهم وتجويعهم كل يوم بدعوى جرم جماعة فيه.. ثلاثين مليون إنسان يجرون كل يوم إلى الجحيم دون ذنب أو جريرة، وإنما بتهمة جماعة ربما لا يتعدى أصحاب القرار فيها عشرة أو عشرين..
أي عالم هذا الذي يقتل ثلاثين مليون بريء بذنب عشرين متهم، ثم يتحدث دون خجل أو حياء عن القانون والعدالة.. عالم يحاصر ويجيع ويوجع ويقتل ثلاثين مليون ضحية بذنب عشرين متهم.. تخيّل وأنت تتحدث عن إعادة الحق إلى أهله فيما أنت في الواقع والحقيقة تقتل الحق وأهله كل يوم مرتين وثلاث..
حصار همجي وعقوبات جماعية عمياء ومتجهمة لا تفرق بين مجرم وبريء، ولا بين جلاد وضحية.. حصار خانق يشتد ثقلا و وطأة على كواهلنا المتعبة.. قصف يومي طال أطفالنا ومواطنينا الأبرياء أكثر مما طال الخصوم من بعضهم..

حرب ضروس ليس للضحايا فيها ناقة ولا جمل.. أبرياء ليس لهم صلة بما حدث ويحدث وبما أحدثوه من حرب وصراع واحتدام.. إنهم الضحايا التي تأتي عليهم نتائج وتبعات هذه الحرب الظالمة، وبما تحمله من كارثية وأسف مميت..
بات الحصار اليوم داخليا وخارجيا يستبيح حقوقنا من الفها إلى ياءها.. عقوبات جماعية في جلّها لا تعاقب مُغتصب، بل تعاقب شعب وقع ضحية حرب ومؤامرة، وأطماع وأجندات.. حرب يجني مرارتها الضحايا الأبرياء، فيما يفلت من العقاب المجرمون الذين أشعلوها وأججوها، ومدوا في آجالها، وأثروا منها على نحو تجاوز الخيال..
***
حرب أثقلت شعبنا سبع سنوات طوال.. عقوبات جماعية وحصار خانق فرضته علينا دول غبية ومتوحشة ومتخلفة حتى في أحقادها، فيما تدعمها دول بقفازات تبدو ناعمة، لكنها حارقة كالنار وفتاكة كالحديد، ومن خلف الأقنعة التي تدعي الحضارة والرقي يطل ما هو صاعق ومرعب.. عالم من الرعب والتوحش والهمجية الصادمة كالحقيقة..
مُبتلون بسلطات وقحة ونخاسة أوطان يبيعون وطنهم بحفنة من مال أو مصلحة، ومقامرون فجروا وطنهم بسبب طيش أو حماقة أو اغاظة خصم أو منافس.. وآخرون ارتكبوا الفظائع كلّها من أجل أن يحكمون باستبداد وطغيان، وبعضهم سقط وأرتهن لعمالة تخجل منها الحجر والشجر والخنازير..
المال يفعل الكثير عند عبيده والباحثين عنه على حساب الوطن والكرامة.. صار العالم رهنا للمصالح في عالم عبثي ونفعي وجائر.. حصار خانق وعقوبات جماعية تحتشد علينا من كل حدب وصوب.. ضوار تتألب وتتكالب من كل فجاج، ووطن بات ممزقا بين أنياب وحراب.. وكل منفس كان لنا وجدناه قد تم سده بألف مانع، وما بقي لنا من فُسح صادروها بكل ما ضاق وخنق وثقل..
***
إن الحصار المضروب علينا بأشكاله المتعددة يتم بدعم وغطاء دولي جائر ونفعي ومستبد.. حصار وعقاب جماعي يحملنا على الظن إلى الحد الذي نراه يستهدف الحياة نفسها بقصد الإبادة وما أستطاع منها وقدر.. استهداف حياة شعب بإمعان، لا استهداف لأفراد أو جماعة..
القانون الدولي هنا للأقوياء الذين يستعبدون الشعوب ويستبيحون الحقوق ويقدمون المصالح ويوغلون في الأكاذيب.. يهدرون ما هو أخلاقي وإنساني لصالح غلبة القوة والمال والمصالح والمنافع.. غلبة هنا تستبد بنا، وغلبة تأتي من الخارج لتستبد علينا مرتين.. اجتمع علينا العسران والظلم المضاعف..
لا عدالة هنا .. ما يحدث هنا هو حصار مدعوم بالمال الذي يتم ضخه على خزانات الدول التي تسند وتدعم هذا الحصار أو تتواطأ معه؛ ليتحول إلى أرصدة في بنوكهم، وموارد لشعوب أخرى ربما لا تعلم إنها تقتات من دماءنا وأشلاءنا وحصارنا، فيما يتم إعلانها كمؤشرات لنجاحات اقتصادية لتلك الحكومات في بلدانها..
في الحروب الخاسر والمتضرر الأكبر هي الشعوب المنكوبة بها، والأوطان التي يتم تمزيقها، والمجتمعات التي يجري تشظيها، والقوانين والنظم التي يتم إهدارها أو تحللها لصالح النهب والفساد، وتجار وأمراء الحروب، والمستفيدين من استمرارها، الذين يجدون في الحرب مغنمهم الكبير، وربحهم السريع، وثراءهم الفاحش.. وأكثر من هذا أنهم مهما أثخنوا وأتخموا وأثروا لا يكتفون ولا يشبعون.
***
من يحتجز السفن المحملة بالمشتقات النفطية في عرض البحر يمارس عقابا جماعيا ضد شعبنا، ومن يحتكر تجارة المشتقات النفطية في الحرب بدافع الجشع والتربّح البالغ في فحشه هو الآخر يمارس ضد شعبنا أو ما وقع منه تحت سلطته عقابا جماعيا مقابلا.. هكذا وجد شعبنا نفسه يعيش مأساة بالغة وحقيقية، وحصارا خانقا تفرضه وتديره أطراف الحرب..
العنصرية والجهوية والمناطقية وما صاحبها من إقصاء وإبعاد وتهجير، وما رافقها من بث سموم الكراهية، تعتبر جرائم حرب لطالما ارتكبتها، ولازالت ترتكبها أطراف الحرب إلى اليوم بحق شعبنا ووحدته، حتّى وإن جرى هذا الفرز أو تلك الممارسات تحت عناوين وأقنعة سياسية مظللة، لكنها في حقيقتها تخبو بوجه ما ممارسة عنصرية مقيتة، وعصبوية منتنة، وعقوبة جماعية فرضتها أطراف الحرب والصراع في مواقع سيطرتها ضد أبناء شعبنا.
إقصاء أبناء شعبنا من الوظيفة العامة أو احتكارها وتوظيفها لصالح طرف من أطراف الحرب، أو ربطها في الواقع بمعايير سلالية أو أسرية أو جهوية أو مناطقية أو حزبية أو غيرها بعيدا عن شروط ومعايير الوظيفة العامة، هي فساد جم، وممارسة عنصرية قذرة، ونيل من استحقاق المواطنة، وإهدار لمبدأ المساواة، واعتداء صارخ على حقنا في العدالة..
مطار صنعاء تم اغلاقه من سبع سنوات طوال ولازال إلى اليوم كعقاب جماعي في وجه شعبنا لا في وجه جماعة يزعم أنه يتم استهدافها به أو من خلاله، فيما الحقيقة تؤكد على نحو مستمر إن الجماعة باتت أكثر قوة بهذا الحصار، وتستند إليه في شعبيتها وتعبئتها، وتعلّق فشلها عليه، وتتربح منه كثيرا، وتجني وفرة لا سابقة لها من قبل.

حصار وعقاب جماعي طالنا هنا وهناك من قبل جميع أطراف الحرب.. كل الاطراف مارست ابتزازا صارخا ووقحا للغاية برواتبنا ومستحقاتنا التي كنّا نعتاش عليها، ورمتنا للجوع والمجاعة والمجهول إن لم نكن لها حشدا للموت أو محاطبا لحربها وأهدافها وأجنداتها الصغيرة والعصبوية، والكارثية في الآن نفسه.
جرى الاستيلاء على رواتبنا بأكثر من وجه وطريقة.. تم أهدار قيمة الريال حتى بات الراتب أقل من صدقة، وحتى في حدود الصدقة جرى التخلّي عن دفعها.. تخلّت سلطات الأمر الواقع هنا وهناك عن مسؤوليتها والتزاماتها القانونية، بل والأخلاقية والإنسانية رغم أنها ملزمة بجميعها باعتبارها سلطات أمر واقع.
تكايدت أطراف الحرب مع بعضها لتحمل كل منها الطرف الأخر المسؤولية، إلا أن جميعها في الحقيقة استفادت واقتاتت رواتبنا ومستحقاتنا بوجه أو بآخر، وتخلّت عن كل التزاماتها وواجباتها حيال المجتمع فيما أوغلت في وظيفة الجباية التي ضاعفتها ثلاثا ورباعا وعشرا، وأثقلتنا بأحمالها مثل ما أثقلتنا الحرب بأوزارها وتبعاتها..
كل سلطات الأمر الواقع باتت تفرض الجبايات الكبيرة والمتلاحقة وتجني وفرة كبيرة، وفي المقابل تخلت عن كل التزاماتها ليس فقط حيال موظفي الدولة، بل حيال المجتمع وما يحتاجه من خدمات وأولها الصحة والتعليم.. عقاب جماعي فرضته كل أطراف الحرب والصراع في اليمن ومعها من يدعمها ويسندها ويقف خلفها..
***

العقوبات الجماعية لاسيما الاقتصادية والتجارية لا يقتصر تأثيرها على السلطة أو الدولة التي اُتخذت ضدها تلك العقوبات، بل تطال على نحو أكبر الشعب الضحية، أو الضحايا من المدنيين والأبرياء..
اليوم أجتمع على شعبنا الذي بات ضحية وأضحية دول قررت فرض العقوبات عليه من جهة، والسلطة التي اتخذت تلك العقوبات ضدها من جهة أخرى، ثم تمعن تلك السلطة المستهدفة من العقوبات في فرض سطوتها وتسلطها وإخضاع شعبها لإرادتها ومشيئتها كيفما كانت، وفي المقابل نجد جل أثار تلك العقوبات قد وقعت على شعبنا أكثر بأضعاف مضاعفة من أي جماعة أو سلطة مستهدفة..
كانت العقوبات الجماعية التي يجري فرضها حكرا في جلّها على مجلس الأمن، ثم صار بعضها تفرضه الدول الكبرى مع حلفائها من خارجه، وانتقل فرضها إلى الدول التابعة لها برعاية وتفويض معلن أو غير معلن، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية من خلال الإمارات والمملكة السعودية في إطار ما سمي لاحقا بـ”الرباعية”.
القانون الدولي لا يعكس إرادة الشعوب بقدر ما يعكس إرادة الدول أو الأنظمة السياسية، وقبلها إرادة ورغبة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولطالما تحت عنوان حفظ السلم والأمن الدوليين تم فرض عقوبات مرعبة على العديد من الشعوب خلّفت أوضاعا إنسانية مأساوية بحقها، ومن هذه العقوبات تلك التي تم فرضها على العراق ويوغوسلافيا وليبيا واليمن وغيرها..
لم تستهدف “الرباعية” جماعة اغتصبت السلطة، بقدر استهدافها اليمن في وحدته واستقلاله وسيادته وفرض هويات صغيرة مصادمة أو تقف على الضد من هوية ومصلحة اليمن الكبير، من خلال حرب ضروس تمادت آمادها، وعقوبات جماعية ثقيلة طالت شعبنا في الصميم..
وفي المقابل باتت تلك الجماعة المعلن ضدها الحرب تساهم بعلم أو بغير علم في تنفيذ أجندات هذه الحرب القذرة، من خلال توفير الذريعة والتسويغ للحرب، وتقسيم وتمزيق اليمن، واحتلال أراضيه وبسط الوصاية والنفوذ الدائم أو الطويل عليها.
هذا الحصار والعقاب الجماعي والمتعدد الوجوه تضرر منه شعبنا على نحو بالغ وفظيع، أكثر مما تضررت منه “الجماعة” المُعلن ضدها هذا الحصار والعقاب، وقد عانى شعبنا الجوع والمجاعة والموت، وتحول بعض منه إلى محاطب حرب قذرة تستهدفه في مكين.. إنه حصار جائر يتعارض مع كل ما هو أخلاقي وإنساني..
إننا نعيش نظام عالمي ليس معتل ومختل، ولا هو فقط غير أخلاقي وغير إنساني، بل هو في جوهره متوحش ومريع.. نظام سنده القوة، وغايته المال والمصالح.. لقد تأكد لنا مرارا أن هذه الحرب التي نعيش جحيمها، وهذا الحصار الخانق المطبق كلتا يديه على عنق شعبنا، وهذه العقوبات الجماعية التي يتم فرضها علينا كل يوم، مدى قبح هذا النظام ودمامته، وما يطال الشعوب منها، من جور وظلم وطغيان.
لقد استغلت أطراف الحرب المحلية وأمراءها هذه الحرب الملعونة والحصار الخانق والعقوبات الجماعية، وتربّحت منها على نحو مهول، وفرضت الجبايات الغير مسبوقة، وحققت لها تراكم ووفرة مالية كبيرة، وإثراء سريع وفاحش على حساب معاناة وعوز وجوع شعبنا الذي صار يهلك ويتلاشى بوجودها وتراكم ثراءها، وعاش الفساد المدعوم من أطراف الحرب الداخلية والخارجية عهده المزدهر والغير مسبوق.
بات الإقليم والرعاة يرعون الفساد ويحمونه ويدعمونه، وتخطّى تأثير لوبي الفساد الذي ظل يقوى ويكبر بؤرة الحرب إلى الإقليم، بل بات عابرا للحدود والبحار، وطال عدد من المنظمات والهيئات والمنظمات وعلى رأسها الأمم المتحدة..
******

كان أي ضابط مناوب أو حتى ضابط عابر في ساحة وحرم الكلية، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، ومنها تلك التي كانت شاقة على نفوسنا.. كان أي ضابط مُصدّقا علينا ولا يُرد له قول، بل حتى الطالب من الدفعة السابقة، والتي لم تتخرج بعد، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، وما عليك إلا التنفيذ أولا دون اعتراض أو تردد؛ لأنه المصدّق عليك ابتداء دون شك ولا ظن..
كان النظام المتّبع يقوم على مبدأ الأقدمية في الغالب والأعم، وكانت مقولة “نفذ ثم ناقش” تأتي في منزلة شديدة النفاذ والأهمية في فلسفة الأوامر والعقوبات العسكرية، وإذا تظلّمت من إجراء أو عقوبة لدى الأعلى رتبة ومسؤولية عليك أنت أن تثبت صحة ما تدعيه؛ لأنه وفق الأصل هو الصادق وأنت الكذوب إلا أن تثبت صحة ما تدّعيه بالدليل الذي لا يُرد..
كما كان نظام الركض هو الأسلوب الوحيد الذي عليك اتباعه أثناء تحركك في أروقة الكلية.. ممنوع المشي أو السير البطيء في الميادين والساحات الخاصة بالكلية، عليك دائما الركض، فإن توانيت أو تساهلت أو أبطأت فيه، يتم إيقاع العقوبة عليك؛ لأنك خالفت نظام الكلية، ولا يوجد ضوابط للعقوبات بحيث تساوي قدر المخالفات، فالأمر يرجع إلى تقدير من ضبط المخالفة، وبالتالي يتخذ العقوبة التي يراها مناسبة..
أمّا العقوبة المسماة بـ (الخسارة) فكنت أراها خاطئة، لاسيما وهي تطال راتب الطالب؛ لأنها لا تطاله وحده، بل تطال أفراد أسرته في مأكلهم ومشربهم! أمقت كل عقوبة تطال الأبرياء، أو تتعدى مرتكب المخالفة، أو تصل إلى انتزاع شيئا من لقمة عيش أطفاله وأسرته..
أما اليوم وفي هذه الحرب الغاشمة فقد تم قطع الرواتب، وتخلت سلطات الأمر الواقع عن إلتزاماتها نحو الجيش والمجتمع، ويجري ممارسة ابتزازا واسعا وغير مسبوق في موضوع دفع الرواتب والمستحقات..
***
كنت في الكلية أزدري في قرارة نفسي العقوبات الجسدية التي تطالنا، لاسيما ما كان يعرف بـ (السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. أحتقر تلك العقوبات ومن يتخذها.. أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. أظن أن الآمر بها مريض ولديه من مركبات النقص ما يعمي البصيرة والبصر..
أرى أن التعاطي مع تلك الأوامر يجب أن يكون في إطار التدريب، وليس في إطار تنفيذ العقوبات.. أن تأتي عقوبة “السحك” في إطار التدريب العسكري أمرا استسيغه وأعيه، بل وأدرك أهميته، أما أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة، فأرى فيها انتقاص من كرامة الطالب، وشتان ما بين الاثنين كما أظن وأعتقد..
تبدت لي العقوبات العسكرية بانطوائها على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. لطالما مقتُ بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. أمقت تلك القاعدة المعمول بها والتي تقول : (نفذ ثم ناقش).. أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريدون..
بتلك المقولة كان يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. أشعر أن إنفاذ أوامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحة، وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا، والتي تم الأمر بإنفاذها، فدمرت الوطن وكانوا ضحاياها أكثر من أن يعدّوا..
كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل أو حتى التساؤل قبل تنفيذها، والتسبب بنتائجها المدمرة والمريرة التي لم نجتاز آثارها إلى اليوم ..
لكل ذلك، كنت أسأل نفسي: يبدو أن التحاقي بالسلك العسكري جاء عن طريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن، ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير..
***

العقوبات الجماعية كانت شديدة الحضور من قبل بعض الضباط المناوبين.. عقوبات جماعية تتخذ أحيانا لأسباب لا وزن لها ضد سرية أو فصيلة أو حضيرة، أو حتى كتيبة بكاملها، ولا يوجد من يمانعها أو يعترض عليها، غير التمرد المسكون في نفوس بعضنا، والذي نعبّر عنه في ذواتنا بالتململ، أو اللعن في غيبه، ونظرات الازدراء في وجه من أتخذها ضدّنا..
كنتُ أشعر أن العقوبات الجماعية تسحق وجودي، وكان يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي اجلالهم وتقديرهم.. لقد كان لدي القائد الذي يستحق الإجلال هو السوي الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد، ويقدم شخصيته على نحو يصير معها نموذجا ومثالاً وقدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.
لازلت أذكر عقوبة جماعية أرغمتنا على الصعود إلى قمة الجبل الشاهق والمسمى (a.r) كدت أسقط منه بسبب أن بيادتي علقت بسلك كان ممدودا على ظهر الجبل.. كنت مثقلا بحقيبة الظهر، وخوذة الحديد الثقيلة، والملابس الميدانية، وتوابعها “المجعّبة”.. وقعتُ وأنا نازل منه، وكدت أهوى من ظهر الجبل إلى اسفله.. صارت لدي عقدة رهاب أعاني منها، وقد كرّست عقدة رهاب أخرى قديمة، حالما كنت طفلا وتدحرجت من رأس الجبل، حتى حواني نتوء فيه، وكان تحته منحدر شديد، إن هويت فيه، سأتمزق إربا يصعب جمعها..
صار لدي رهاب مكرر من الأماكن المرتفعة، غير أن ما كان لدي أهم، إن الحادث الأخير لم يكن ناتجا عن تدريب عسكري أو حتى اختبار لياقة أو نحو ذلك مما يمكن تسويغه، ولكنه كان ناتجا عن عقوبة جماعية، نالتني دون أن ارتكب مخالفة.. لم استسيغ العقوبات الجماعية إلى اليوم إلا محمولا بالأديان وغضب الرب..
العقوبات الجماعية تطال الأبرياء والأطفال ومن رُفع عنهم القلم.. أره غضب يتم اطلاقه في غير محله.. لا استسيغ تلك العقوبات وتعافها نفسي، وأخضع لها مُكرها..
كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع ومحاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق إلى عقوبة جماعية كانتقام ثأري؛ فيصدر أمره الجازم الذي لا يخلو من حمق وقلة حيلة، بعقاب الفصيلة، أو السرية أو الدفعة كاملة في بعض الأحيان..
ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة ؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث هو دون الجريمة، إنها مخالفة تستحق الجزاء لمرتكبها، أو حتى لمن تواطأ معه، ولكن لا يجب أن تطال الأبرياء أو من لم يعلم، ولم يسمع الصوت الذي صدرت بسببه هذه العقوبة أو تلك، ولطالما تساءلت مع نفسي واغتظت في هذا الأمر…!
كنت أشعر إن العقوبات الجماعية أقرب إلى الانتقام إن لم تكن هي كذلك دون أن تخلو من عوامل تدمير للقيم والأخلاق والحقوق.. تنكيلا انتقاميا ليس له علاقة بالرشد.. أسلوب أقرب إلى الثأر لا يخلو من حمق وعجز وقلة حيلة، وينم عن عُقد متمكنة، ومركب نقص ثقيل، ربما يتحول صاحبها إلى خطر أكبر فداحة في المستقبل، لاسيما إذا أمتلك صاحبها سلطة وقرار أكبر وأخطر.. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا وتخلفا أو هكذا أعتقد..
اليوم وفي ظل هذه الحرب الضروس ولسبع سنوات طوال يعاني شعبنا من حصار خانق وعدوان داخلي وخارجي، وعقوبات جماعية وسياسات تضييق خانقة ومتشددة، وتنكيل متعمدة تنال من شعبنا أكثر من نيلها من أطراف الصراع والحرب الداخلية..
عقوبات كارثية تقع أكثر وأكبر أوزارها على المواطن والموظف البسيط الذي يكابد قدره، ويعيش صراعا من أجل البقاء والحياة.. ابتزاز عريض تحول شعبنا إلى محاطب حرب محاصرا بالجوع والمجاعة والفساد والظلم الأكيد..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى