الحرب الروسية الاوكرانية- شبه توازن في الهجوم والدفاع ولا مؤشرات للحل السياسي

أ د / دحان النجار
الحرب الروسية الاوكرانية تدور رحاها بين الجانبين في النصف الثاني من عامها الثالث دون تحقيق نصر حاسم لأحد الطرفين ولا افق سياسي للحل.
كان بعض المراقبون يرون بان العام ٢٢٠٣ سيكون عام نهاية الحرب بين الطرفين وكان اغلبهم يرجحون نصر روسيا وخضوع كييف لشروط موسكو في وقف اطلاق النار إلا ان تطورات حلقاتها تثبت انها تسير باتجاه صاعد في استمرار الاستنزاف للطرفين وفي شبه توازن في الدفاع والهجوم.
منذ بداية الحرب كان لسلاح المسيرات الفضل الأكبر في ضرب القوات الروسية المهاجمة إلى جانب صواريخ جافلين المضادة للدروع والتي ركزت على ضرب خطوط الامداد الروسية وإنزال ضربات موجعه بسلاح الدروع الروسي الذي اندفع باعداد كبيرة في حرب تقليدية من زمن ما قبل المسيرات والأسلحة الذكية وهو الامر الذي قاد إلى ترتجعها وبدء التقاط الأنفاس لدى الاوكران الذين تمكنوا بواسطة المساعدات العسكرية والاقتصادية والفنية الغربية من استعادة بعض أراضيهم المحتلة حول العاصمة كييف وفي الشرق وفي اقليم خيرسون الجنوبي.
كان التفوق الروسي في الجو وفي سلاح الصواريخ ولازال يمثل تفوق استراتيجي إلا ان حصول أوكرانيا على صواريخ شادو وهيمارس والمسيرات البحرية وغيرها من الأسلحة المدرعة والدبابات الغربية المتطورة بدأ في تغيير موازين القوى تدريجيا لصالحهم حيث اصبحت قادرة على مهاجمة اهداف داخل الأراضي الروسية وضرب خطوط الامداد كما حصل في ضرب جسر القرم الاستراتيجي وخطوط الامداد بواسطة السكك الحديدية وايضا ضرب مخازن الوقود كما حصل في مقاطعة بيلوغراد وراستوف نا دانو وكراسنادور ومؤخرا في شبه جزيرة القرم عندما ضربت أوكرانيا مخازن الوقود ومن قبلها ضربت القواعد العسكرية البرية والبحرية في شبه الجزيرة وهو الأمر الذي شكل عقبة حقيقية امام اندفاع القوات الروسية داخل الأراضي الاوكرانية بل وجعلها احيانا في حالة دفاع . أضف الى ذلك ان القوات الاوكرانية تمكنت من احتلال بعض البلدات في اقليم كورسك الروسي والى يومنا هذا لا زالت ثابتة فيها ولم تستطع القوات الروسية استعادتها.
اما سلاح المسيرات فقد تمكن الاوكران من إطلاقها إلى الكرملين مقر الرئاسة الروسية والى قواعد عسكرية استراتيجية في عمق الأراضي الروسية مثل قاعدة ماركس وتوجيه بعضها الاخر باتجاه اقاليم بيلوغرا د وراستوف نا دانو واقليم كراسنودار الجنوبي المهم الذي تم فيه مؤخرا تدمير مستودع الطائرات المسيرة الإيرانية من طراز شاهد يحتوي على اربعمائة مسيرة حسب ادعاء القوات الاوكرانية. واكيد ان لروسيا يد طولا في استخدام القوة الصاروخية والطيران والمسيرات وانها وصلت إلى معظم او كل المدن والمواقع الحساسة الاوكرانية إلا ان القوات الاوكرانية وبمساعدة غربية ودعم جماهيري تمكنت من الصمود خلال اكثر من عامين ونصف وهو الامر الذي يؤشر إلى تعثر القوات الروسية في حسم المعركة على الارض حتى وان حققت بعض التقدمات في اقليم الدونباس وبالذات في اقليم دونتسك لكنها تضل تقدمات بطيئة ومحدودة جدا امام صمود القوات الاوكرانية الاقل عددا وتسليح.
يلاحظ في الاونة الاخيرة ان القوات الاوكرانية تقابل التحدي بالتحدي بعد ان اكتسبت الكثير من عوامل الثقة بالنفس والدعم الغربي السخي في السلاح والمال بل وفي توطين الصناعة العسكرية الغربية فيها ففي زيارته الأوروبية الأخيرة دعاء الرئيس زلينسكي حلفائه الاوروبيين إلى توطين كثير من الصناعات العسكرية الهامة في بلاده. دول الناتو لها مصلحة في توطين الصناعات العسكرية في أوكرانيا للخروج من الاحراج ومن توتير الأوضاع اكثر مع روسيا عند تقديمها اسلحة هجومية حساسة اما لو تم إنتاجها في أوكرانيا حتى وان كانت بمساعدتهم الأمر يختلف عن نقلها مباشره من مخازن الناتو.
هزيمة أوكرانيا تعتبر هزيمة لحلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية بالذات ولذلك لن تُترك وحيدة في حربها مع جارتها روسيا وسوف يستمرون في دعمها بالسلاح الدفاعي والهجومي في صورة واضحة وصاعدة كما ونوعا لتخطي قواعد الاشتباك والخطوط الحمر التي كانت سا ئدة عند بداية الحرب في عامها الاول. قد تتمكن القوات الروسية من تحقيق تقدمات محدودة في اقليم الدونباس ( لوغانسك ودونيتسك) لكن ثمنها سيكون غالي ماديا وبشريا ولن تؤدي إلى استسلام أوكرانيا او قبول الشروط الروسية للسلام.
وكما تمت الاشارة سابقا القوات الروسية لا زالت اكثر قدرة في ضرب المدن والمقاطعات الاوكرانية وكذلك خطوط الامداد والمخازن وخير دليل على ذلك استخدام القوات الروسية للقنابل الحائمة في اقليم كورسك وهي قنابل فتاكة تلحق اضرار كبيرة بالطرف المقابل لكن الضربات الجوية لن تقود إلى حسم معركة ان لم تترافق مع زحف ارضي للمشاة والدروع واكيد ان لدى روسيا اسلحه اكثر فتكا وربما تكون قد استخدمت معظم مخزونها منها خلال الفترة الماضية إلا ان قدرات القوات الاوكرانية في الدفاع والهجوم في نمو مستمر وفي اعتقادي بان زمن الحرب كلما طال كل ما كان لغير صالح روسيا وقد تكون سبب في تغييرات داخل روسيا نفسها لان حلفاء أوكرانيا المتمثلين بالولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو لديهم قدرة كبيره على ادارة حروب الاستنزاف وإنهاك الطرف المقابل عسكريا واقتصاديا واجتماعيا.
وبسبب التعثر في حسم المعركة او الوصول إلى اتفاق سلام مع استمرار العقوبات الشاملة ضد روسيا والتي سوف تؤثر بالتاكيد على حياة الروس سلبا بالاضافة إلى نمو القدرات الاوكرانية الهجومية كل ذلك قد يؤدي إلى تذمر في الجيش وفي الشارع الروسي الامر الذي قد يقود إلى حراك مناهض للحرب ولا يستبعد ان تكون هناك حركة انقلابية عسكرية ، والأخطر من ذلك غياب الرئيس بوتين عن المسرح بسبب حالته الصحية التي يبدو انها تتدهور وفي حالة غيابه وغياب الكاريزما التي يتمتع بها في الجيش والامن وفي الوسط الشعبي وهو الغياب الذي قد يفتح الباب على خيارات متعددة اقلها اقدام القيادة الجديدة على تنازلات لصالح أوكرانيا والناتو مقابل الخروج من بعض العقوبات الاقتصادية والعسكرية والسياسية .
أوروبا وحلف الناتو لا توجد هناك مؤشرات جديه على تغيير مواقفهم من دعم أوكرانيا بالرغم من صعوباتها الاقتصادية إلا انها مجمعة على عدم أهداء الرئيس بوتين نصرا سهلا في أوكرانيا وانه لابد من ردعه مهما كلفهم ذلك من دعم مادي وعسكري ، اما الولايات المتحدة الأمريكية فهي الأخرى الأكثر تشددا ضد بوتين والأكبر داعما لأوكرانيا ماديا وعسكريا وسياسيا وسوف تستمر كذلك وخاصة إذا استمر الديمقراطيون في البيت الأبيض اما لو فاز الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة من المحتمل ان يوحد نوع من التنفيس في حدة المواجهة والبحث عن حل سياسي لكن هل ستوافقه اجهزة الدولة العميقة على ذلك ؟ امريكاء دولة مؤسسات وسياستها الخارجية شبه ثابته وان حصل فيها تغيير يكون تغييرا طفيفا . الانتخابات الأمريكية القادمة ستكون ساخنة جدا وقد تقود إلى تغييرات سلبية داخلية كبيرة وهذا ما لا نتمناه ،هذه التغييرات سوف تنعكس على الوضع العالمي بما في ذلك الحرب الروسية الاوكرانية وهكذا يظل الوضع الداخلي للدول الفاعلة هو الاهم في تغيير سياساتها الخارجية.
الحرب الروسية الاوكرانية هي حرب بين ارادتين ارادة قطب يحكم العالم وارادة قطب في طور التشكل ويريد ان يحمي نفسه ويشارك في صياغة العالم فلا القطب المهيمن بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الناتو سيقبل الخسارة ولا القطب الناشىء او الوليد بقيادة الصين وروسيا ومعهما كوريا الشمالية وايران سيقبل الاستسلام وسوف يستمر الصراع حتى يصل الطرفان إلى اتفاق سياسي وهذه هي القاعدة العامة في كل الحروب اي الجلوس على طاولة المفاوضات.
والخلاصة ان هذه الحرب سوف تستمر في استنزاف روسيا واوكرانيا ولن يستسلم اي طرف فيها لانها تعبير عن الصراع العالمي الحالي واي تغييرات دراماتيكية فيها لن تحصل إلا إذا حصلت متغيرات داخلية جوهرية في راس قطبيها وفي حالة عدم حصول هذه التغييرات الداخلية في قطبيها سوف تستمر حتى يصل الطرفان إلى حالة توازن او شبه توازن في القوة والى قناعة تامة بان مصالحهما الاستراتيجية مُصانة على اساس تقاسم النفوذ وتبادل الصفقات.
د. دحان النجار ميتشجان ١٣ اكتوبر ٢٠٢٤