الحرب الروسية الاوكرانية-الناتو يستنزف روسيا فهل يجنح بوتن للسلام بشروط أقل ؟

أ د / دحان النجار
تحقيق الانتصارات في الحروب لا تتم فقط بواسطة القوة العسكرية المدمرة والأعداد الكبيرة للجند التي لا غنا عنها لاي جيش ، هناك ايضا عوامل اخرى تساعد على النصر وكسب المعركة ومن ضمن تلك العوامل ( العمل في عمق العدو وتهديد خطوط امدادة وضرب مرتكزاته الاقتصادية واحباط جمهوره وجنوده.
العمل خلف خطوط العدو بواسطة المخبرين والمتعاونين او بما يسمى الطابور الخامس يشكل احد اهم العوامل التي تقود إلى الانتصارات السريعة والاستراتيجية، وايضا التركيز على نقاط ضعف العدو التي تجعله ينهار بسرعة حتى لو كان يملك من العتاد العسكري اكثر بكثير من عتاد العدو.
في المعارك الطويلة يتم استنزاف الجيوش من حيث العتاد العسكري الأسلحة الثقيلة والنوعية وفي التغذية والوقود إلا ان الأخطر بين كل العوامل هو عامل الاستنزاف البشري.
وعادة ما يكون المهاجم هو الأكثر عرضة للاستنزاف في المعدات والأفراد ،لان المهاجم يحتاج الى عشرة اضعاف من العتاد والافراد ما يملكه الطرف الآخر.
في الحرب الروسية الاوكرانية كان واضحا للعيان كثافة العتاد العسكري بكل أنواعه والافراد في الجانب الروسي الذي بدأ الهجوم على أوكرانيا وتمكن في الاندفاعة الاولى من الوصول إلى ضواحي العاصمة كييف إلا ان تلك الاندفاعة تم فرملتها من قبل الجيش والمقاومة الاوكرانية ذات العدد والعدة الاقل بل ودحرها من معظم المناطق التي استولت عليها في بداية العام ٢٠٢٢. كانت العمليات الخلفية بواسطة مجاميع صغيرة مسلحة بصواريخ “جافلن” المضادة للدروع وبالمسيرات “بيرقدار ” والأسلحة الخفيفة قادرة على كسر جيش قوي كثيف العدد والعدة وإجباره على التقهقر تاركا عدته وقتلاه مرمية على جوانب خطوط الهجوم الكثيف.
الجيش الروسي ترك مساحات شاسعة كان قد استولى عليها خارج اقليم الدونباس ووسع من مناطق سيطرته وسيطرة حلفائه منذ العام ٢٠١٤ في اقاليم لوجانسك ودونيتسك واضاف اليهما اجزاء كبيرة من اقليمي زاباروجيه وخيرسون وكان ذلك في الاشهر الاولى للحرب وبعدها تحول الى الدفاع وتراجع عن بعض مناطق سيطرته في خيرسون وخاركيف قبل ان يستعيد أنفاسه ويواصل الهجوم في اقاليم الدونباس التي لم يحقق فيها نتائج نوعية حتى وإن تقدم مسافات محدودة في الأمتار مقابل أثمان باهضة في العتاد والجند .
كان لقوات فاغنر الدور الأكبر في تحرير مدينة “باخموت” الهامة في اقليم دونتسك في معركة الشتاء ٢٠٢٣ الأشرس والاعنف والتي امتدّت ل ٢٢٤ يوما ، ومنذ ذلك الحين والقوات الروسية تحبو أمتارا مقابل خسائر فادحة في العتاد والأرواح جعلت الجيش الروسي يستعين بالمرتزقة الأجانب وبقوات برية من دول صديقة مثل كوريا الشمالية لتغطية النقص في قواته.
الجانب الاوكراني مدعوما بالخبرات الغربية القتالية الهجومية والدفاعية والاستخباراتية لدول الناتو تمكن من تسجيل نقاط على الطرف الروسي تمثلت في احتلال بعض البلدات في اقليم كورسك والتي تم دحره منها وفي ضرب القواعد الاستراتيجية الروسية في العمق وفي الأطراف بواسطة العمل الاستخباراتي والمسيرات واغتيال بعض القادة العسكريين والصحفيين والكتاب في عمليات نوعية تدل على العمل الاستخباراتي العميق ونشاط الطابور الخامس من الداخل الروسي. وفي المقابل يُلاحظ ضعف العمل الاستخباراتي الروسي في العمق الاوكراني حيث لا اغتيالات ولا مسيرات مسربة إليه ولا يُلاحظ عمل الطابور الخامس بشكل ملحوظ وبارز .
من المعروف ان الجيش الروسي يعاني من قلة العنصر البشري وهذا معروف لدى الجانب الاوكراني والناتو الذين بدأوا بالتركيز على الحاق اكبر الخسائر فيه منذو وقت مبكر الامر الذي سيجبر الرئيس فلاديمير بوتن عاجلا ام آجلا على الجنوح للسلام وخفض سقف شروطة.
يُقال بان الجيش الروسي يخسر أربعين الف جندي شهريا وهذا عدد مهول مقارنة بعدد سكان روسيا البالغ عددهم مئة واربعون مليون إنسآن والجيش الروسي الذي يتجاوز المليون فرد في دولة مترامية الأطراف تحتاج إلى قوة بشرية كبيرة لحماية حدودها ناهيك عن القيام بحروب ضد دول اخرى . ويُقال بان الجيش الروسي قد خسر إلى الان اكثر من مليون جندي وضابط في حربه ضد أوكرانيا وانه يعاني من تعويض ما فقد نتيجة لعزوف الشباب الروس عن الالتحاق بالجيش وومغادرة اعداد كبيره منهم البلاد والمعركة الاستنزافية مستمرة .
أوكرانيا والناتو كما اُشير سابقا ادركوا نقطة الضعف هذه بوقت مبكر وبدأ تركيزهم على الحاق الخسائر الأكبر بالعنصر البشري في معركة طويلة الامد سيُجبر فيها بوتين إلى الجنوح للسلام ليس بشروطة ذات السقف المرتفع ، حيث عملت أوكرانيا بمساعدة حلفائها في الناتو على اقتناء الأسلحة النوعية الدقيقة ومنها تلك التي تستهدف الأفراد بدرجة رئيسية.
الناتو يزود أوكرانيا باسلحة دقيقة ونوعية موجهة تستهدف الجنود الروس في الخطوط الخلفية والأمامية ومنها المسيرات والصواريخ والمدافع الذكية ولعل اكثرها حداثة هي مسيرات ” الدبور الأسود”صغيرة الحجم والتي بامكانها ملاحقة الأفراد وارسال المعلومات مباشرة إلى مركز التشغيل حتى لو تم تتبعها واستهدافها وإسقاطها فإنها تكون غير ذات جدوى والمعلومات المأخوذة بواسطتها قد تم إرسالها. هذا ” الدبور” قادر على النفاذ إلى سكنات وملاجئ وتحصينات وخنادق وأماكن تمركز واختباء افراد الجيش المعادي وارسال المعلومة إلى المركز لاستهدافهم وقتل اكبر عدد منهم.
“الدبور الاسود” هو عبارة عن طايرة مسيرة بطول اصبع اليد ،ويبلغ وزنها ١٦ جرام وتقدر قيمتها بنحو ١٩٥ الف دولار وهذا السلاح قد يحسم معارك المدن لصالح الاوكران.
والدبور الاسود من اختراع شركة نرويجية واستحوذت عليها شركة أمريكية وتتسابق عليها جيوش دول العالم .وعدت بريطانيا والنرويج بتزويد أوكرانيا ب ٨٥٠ مسيرة ” دبور اسود” في اغسطس الماضي ومن تلك اللحظة مالت الكفة لصالح أوكرانيا وهم اليوم يوعدون أوكرانيا باعداد اكبر منها.
الدبور الأسود مخصص للاستطلاع والدعم الاستخباراتي ضمن نظام محمول يضم قبضة وشاشة لمس ويحتاج الجندي لعشرين دقيقة لتعلم نظام تشغيله، ويمكن للجندي ان يستخرج الدبور ويطلقه بأصابع اليد في دقيقة ويحتوي على نظامين للملاحة ، الاول عبر الطيار الآلي المثبت فيه والثاني عبر التحكم اللاسلكي اليدوي.
ايضا هناك المعلومات التي ترسلها الأقمار الصناعية والمخبرين خلف خطوط العدو كل ذلك يقود الى قتل المزيد من الجنود الروس كي يفقد الجيش الروسي توازنه والعجز عن تجنيد اعداد بديله الامر الذي سيقود في النهاية
إلى رضوخ الرئيس فلاديمير بوتين لوقف الحرب وبشروط متدنية عما كان يشترط في بداية الحرب مثل نزع سلاح اوكرانيا وعدم ضمها للناتو على سبيل المثال ويكون جيشه قد فقد الكثير من هيبته التي اكتسبها تاريخيا في معارك مصيرية سبب صموده الطويل والعنيد وكثافته امام خصومة .
عدم التقاط الرئيس بوتين اللحظة بعد دخول الرئيس الاميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ورغبته في وقف الحرب الروسية الاوكرانية ووقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا ، قاد إلى خيبة امل لدى الرئيس دونالد ترامب الذي بداء يلوح بفرض المزيد من العقوبات على روسيا والاستمرار في تسليح أوكرانيا نوعيا بالتنسيق والتعاون والتكامل مع دول الناتو من اجل وقف هجوم الروس بل ومن اجل هزيمتهم عبر حرب استنزافية شبيهة بحرب افغانستان في العقدين الأخيرين من القرن الماضي التي استنزفت الاتحاد السوفيتي وجيشه واقتصاده وكانت سبب رئيسي في تفككه.
الجيش الروسي بالرغم من قوته الضاربة إلا انه سيتأثر كثيرا بالحرب الاستنزافية التي ستقود الى المزيد من المشاكل الداخلية لروسيا وقيادتها فإما التراجع والجنوح للسلام
او استخدام قوة الردع النووية وهذا امر مستبعد لكنه ممكن ولو بدرجة منخفضة في حال وصلت الحرب الاستنزافية إلى طريق اللاعودة، تعويض الخسائر الاقتصادية والعتاد العسكري امر ممكن خلال فترة قصيرة أما تعويض الخسائر البشرية ليس من السهل وياخذ وقت طويل. الرئيس بوتين امام خيارات صعبة فقد دخل الحرب بارادته ويبدو ان الخروج منها سيتم بارادة خارجية ايضا.
د. دحان النجار – ميتشجان ٢٦ يوليو ٢٠٢٥.