قطر والأمم المتحدة… دبلوماسية الوساطة بين الأزمات والنزاعات

نيويورك – زينة بلقاسم – الأمم المتحدة
برزت دولة قطر خلال العقدين الماضيين لاعبًا دبلوماسيًا نشطًا على الساحة الدولية، إذ تجاوزت مساحتها الجغرافية الصغيرة وإمكاناتها السكانية المحدودة لتتحول إلى وسيط موثوق في النزاعات الإقليمية، ومساهم أساسي في العمليات الإنسانية للأمم المتحدة. وبذلك، اكتسبت مكانة مرموقة في الجمعية العامة ونقاشات مجلس الأمن، حيث تُطرح القضايا الأكثر تعقيدًا في الشرق الأوسط وما وراءه.
منذ انضمامها إلى المنظمة الدولية عام 1971 عقب الاستقلال عن بريطانيا، حرصت الإمارة الخليجية على ترسيخ صورة دولة مستقلة تنتهج سياسة خارجية متوازنة، تقوم على الحوار والحلول السلمية. وقد تعزز هذا التوجه مع صعود الأمير حمد بن خليفة آل ثاني عام 1995، حيث تبنت الدوحة نهج “الوسيط” بين الأطراف المتصارعة، مستفيدة من مواردها الغازية الهائلة التي جعلتها من أبرز مصدّري الغاز المسال عالميًا، ومن ثم دعمت بقوة المبادرات الإنسانية والتنموية للأمم المتحدة.
وقد كان لبنان عام 2008 إحدى أبرز المحطات التي جسدت هذا الدور، حيث رعت العاصمة القطرية “اتفاق الدوحة” بين الفرقاء اللبنانيين بعد أحداث مايو. الاتفاق حظي بترحيب واسع على المستويين الأممي والدولي، وشكّل نموذجًا لقدرة الدولة الصغيرة ذات النفوذ الكبير على جمع أطراف متنازعة حول طاولة واحدة، في وقت أخفقت فيه جهات أخرى في تحقيق إنجاز مشابه.
أما في غزة، فقد ارتبط اسم الإمارة ارتباطًا وثيقًا بالقضية الفلسطينية. فمنذ حصار القطاع عام 2007، ضُخت مليارات الدولارات عبر مؤسسات الأمم المتحدة مثل الأونروا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإعادة إعمار المنازل والبنى التحتية. ومع كل جولة من جولات الصراع بين 2012 و2021، كانت الدوحة في مقدمة الوسطاء، بالتنسيق مع مصر وتحت مظلة الأمم المتحدة، حيث أشاد المبعوثون الدوليون بقدرتها على التخفيف من المعاناة الإنسانية وتوفير مقومات الصمود للفلسطينيين.
ومن ناحية أخرى، قدّمت الدولة الخليجية نموذجًا آخر في اليمن، حيث دعمت بشكل مستمر جهود المبعوثين الأمميين نحو تسوية سياسية شاملة. كما موّلت عبر صندوق “قطر للتنمية” خطة الاستجابة الإنسانية لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، لتؤكد بذلك أن أولويتها تتمثل في معالجة البُعد الإنساني للأزمة، بعيدًا عن الحسابات العسكرية.
وفي الملف الأفغاني، برزت الدوحة كمنصة مركزية للحوار الدولي. فمنذ افتتاح المكتب السياسي لحركة طالبان على أراضيها عام 2013، تحولت إلى ساحة للتفاوض بين واشنطن والحركة، وقد لعبت دورًا رئيسيًا بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2021. وقد أشادت الأمم المتحدة مرارًا بقدرة العاصمة الخليجية على استضافة المفاوضات وتسهيل وصول المساعدات، ما جعلها شريكًا لا غنى عنه في التعامل مع الملف الأفغاني.
أما في السودان، فقد لعبت الإمارة دورًا محوريًا عبر رعايتها “اتفاق الدوحة للسلام” في دارفور عام 2011، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. ورغم أن الاتفاق لم ينهِ الأزمة كليًا، فإنه أسس لمسار سياسي ما زال حاضرًا في تقارير مجلس الأمن. ومع اندلاع النزاع الأخير عام 2023، واصلت الدوحة إرسال مساعدات إنسانية بالتنسيق مع المنظمة الدولية، مؤكدة التزامها بالحلول السياسية.
وعلى صعيد مجلس الأمن، ورغم أن الدوحة لم تشغل مقعدًا غير دائم منذ عامي 2006–2007، فإنها أثبتت حضورًا قويًا عبر مشاركتها في صياغة قرارات تخص دارفور ولبنان وإيران، إضافة إلى دعم القرارات المرتبطة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين أثناء النزاعات المسلحة.
وقد عززت الدولة الخليجية هذا الدور من خلال “صندوق قطر للتنمية”، الذي أصبح شريكًا استراتيجيًا للأمم المتحدة، حيث موّل مشاريع إنسانية وتنموية في سوريا واليمن وغزة وأفريقيا. وبذلك، احتلت مرارًا مراتب متقدمة عالميًا في حجم المساعدات الإنسانية مقارنة بالناتج المحلي، ما جعلها تُصنف كـ”جهة مانحة موثوقة” في تقارير المنظمة الدولية، وهو ما منحها رصيدًا سياسيًا إضافيًا في نيويورك وجنيف.
واليوم، تقف الدوحة كوسيط لا غنى عنه في ملفات غزة وأفغانستان والسودان، وتثبت من جديد أن الدبلوماسية القائمة على الحوار والوساطة قادرة على تقديم حلول فعّالة في عالم يزداد تعقيدًا. وقد باتت الأمم المتحدة نفسها تعتمد على هذا الدور الحيوي، سواء من خلال الدعم المالي أو عبر جهود الوساطة السياسية.
و بذلك نستخلص أن علاقة الإمارة الخليجية بالأمم المتحدة تعكس تحوّل دولة صغيرة إلى لاعب دولي مؤثر عبر مزيج من “القوة الناعمة” المتمثلة في المال والإعلام والوساطة، و”الدور العملي” في تعزيز جهود السلام. وفي نظام دولي مضطرب، تبقى الدوحة واحدة من القلائل القادرين على التحدث مع جميع الأطراف، من واشنطن إلى طالبان، ومن إسرائيل إلى حماس، وهو ما يجعلها شريكًا لا يمكن تجاوزه في إستراتيجية الأمم المتحدة لإدارة الأزمات وبناء السلام في القرن الحادي والعشرين.
المقال ١٣: زينة بلقاسم