حرب الذهب والدولار: كيف تخطط بكين لتغيير النظام المالي العالمي… وهل تملك واشنطن خطة التفوّق التالية؟

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اليمن الحر
في لحظةٍ تبدو كأنها عودة مُقنّعة إلى ما بعد “بريتون وودز”، تتقدّم الصين بخطى هادئة لصياغة نظام مالي “موازٍ” يقوم على الذهب واليوان الصيني بدلًا من هيمنة الدولار، بينما تنشغل الولايات المتحدة بخطاب تفاؤلي تارةً وحذرٍ تارةً أخرى. لكن وراء الضجيج، تُظهر بيانات حقيقية أن مركز الثقل لا يزال عند واشنطن، وأن الطريق إلى ريادةٍ أمريكية مُجدّدة ليس مُغلقًا ولا نظريًا؛ بل يمر عبر إصلاحات محددة تعزّز عناصر القوة التاريخية للاقتصاد الأمريكي متمثلة في: سيادة القانون، وعمق أسواق رأس المال، والابتكار، والطاقة. فحين تقول إحصاءات صندوق النقد إن حصة الدولار من احتياطيات البنوك المركزية، بعد ضبط أثر تقلبات العملات “لم تتغيّر إلا هامشيًا” بحول 57–58% في الربع الثاني من 2025، فهذا يعني أن “قصة النهاية” مبالغ فيها، وأن ما يحدث أقرب إلى تآكل بطيء للثقة لا إلى انقلاب
شامل على القواعد.
وحين يحدّثنا بنك التسويات الدولية أن الدولار كان طرفًا في نحو 89% من مجمل تداولات العملات عالميًا وفق المسح الثلاثي لعام 2025، فهذه ليست رمزية لغوية، بل بنية تحتية نقدية فعلية يتعامل بها العالم يوميًا، من غرف التداول في نيويورك إلى سنغافورة ولندن.
وحتى في قلب “سردية اليوان الصيني الصاعد”، تكشف تقارير “سويفت” أن الرنمينبي بقي في المرتبة السادسة عالميًا بحصة مدفوعات تقارب 2.9% منتصف 2025، أي أقل بكثير من الدولار أو اليورو، ما يعني أن توسّع استخدام اليوان واقعي لكنه لا يزال محدود الأثر على “أنابيب الدفع” الكوكبية التي بُنيت لعقود على العملة الأمريكية.
صحيحٌ أن البنوك المركزية واصلت شراء الذهب بوتيرة تاريخية خلال 2024–2025 (فوق الألف طن سنويًا في المجمل، مع استمرار الشراء الشهري في 2025)، لكن هذا “التنويع” لا يساوي بحجمِه كسرَ منظومة الدولار، بل هو تحوّط ذكي في زمن اللايقين، والطلب الرسمي المتجدد على الذهب يتعايش مع استمرار تفضيل الاحتياطي بالدولار والأصول الأمريكية
السائلة. وحتى قصة أن “الصين تبيع السندات الأمريكية” تحمل وجهًا آخر: نعم خفّضت بكين حيازاتها إلى أدنى مستوى منذ 2008 تقريبًا أي قرابة 731 مليار دولار في يوليو 2025، لكن الإجمالي الأجنبي من سندات الخزانة بلغ مستويات قياسية لأن مشترين آخرين في أوروبا واليابان والخليج ملأوا الفراغ، ما يعكس جاذبية سندات الخزانة كأصل مرجعي للأمان والسيولة العميقة
بهذه الخلفية، تبدو “الحرب الهادئة” اليوم أقرب إلى سباقٍ على من يصوغ النسخة التالية من العولمة المالية. فالصين تُكدّس الذهب وتبني قنوات تسوية باليوان الصيني، والولايات المتحدة تُعيد تصنيع الشرائح المتقدمة والبطاريات الخضراء والطاقة النظيفة على أرضها، ما يُحوّل الدولار من “ورقة امتياز” إلى “قيمة إنتاج” إذا أُحسن استثمار هذه اللحظة. فأرقام الاستثمار الصناعي والطاقة النظيفة تشير إلى موجة إعادة تموضع داخل أمريكا: حيث المنح
والقروض معلنة ضمن قانون الرقائق
تتجاوز 32.5 مليار دولار حتى منتصف 2025 لتشييد سلاسل توريد أشباه الموصلات، مع حوافز ضريبية واستثمارات بحث وتدريب تُعيد تشكيل “الكومنز الصناعي” في أريزونا، وأوهايو، ونيويورك، وتكساس.
وفي الحزمة الخضراء، تُظهر لوحات المتابعة المستقلة أن استثمارات الربع الأول 2025 في الطاقة النظيفة والنقل بلغت 67 مليار دولار رغم تباطؤ فصلي، ما يرسخ بنية تحتية إنتاجية أكثر صلابة وأقل هشاشة لسلاسل التوريد الخارجية وحتى مع تذبذب الإنشاءات الكلية هذا الصيف، تبقى الكتلة الاستثمارية للبناء الصناعي والبنية التحتية في مستويات تاريخية مقارنة بالسنوات الماضية، وهو ما يُستدل عليه من بيانات الإنفاق على البناء ومقاربات تتبّع القطاع الخاص.
والمعنى الاستراتيجي لذلك أن واشنطن لا تحتاج إلى “إسقاط” مسار الصين كي تتقدم، بل إلى ترقية عرضها القيمي للعالم. فالدولار ظل قويًا لأن الولايات المتحدة كانت تقدّم ثلاثة أشياء معًا متمثلة في سيادة قانون يمكن التنبؤ بها، وأسواق رأسمال ذات سيولة لا تُضاهى، الى جانب ابتكار تكنولوجي يُنتج أصولًا حقيقية لا “أوراقًا” فحسب. ويكمن التحدي الآن في كونه ليس دفاعًا عن الماضي، بل إطلاق “دولار 2.0” حيث تتزاوج قوة العملة مع قوة البنية: فتتوفر طاقة تنافسية، وتصنيع متقدم، ومنظومة دفع عصرية، بالإضافة الى قيادة معيارية للجيل التالي من التمويل. وبصياغة أوضح، فإذا كانت بكين تراهن على الذهب لتثبيت الثقة، فإن واشنطن تستطيع أن تراهن على شيءٍ أثبت نجاحه مرارًا ألا وهو توفر المؤسسات والابتكار والتحالفات لذلك، تأتي الخريطة التالية كحل عالمي عملي يُبقي الولايات المتحدة في المقدمة ويخفّض حرارة “حرب الذهب والدولار” بدل إشعالها. فأولًا، يتم ترسيخ “معيار السيولة والشفافية” عالميًا بقيادة أمريكية، يأتي بعدها إعلان حزمة مشتركة مع مجموعة السبع و”أصدقاء الدولار” لتبني قواعد إفصاح موحّدة عبر أسواق الدين السيادي والصناديق السيادية، وربط الوصول الامتيازي لخطوط المقايضة بالدولار المسماة ب (السواب لا ينز) بمعايير حوكمة وشفافية بيانات الاحتياطي. وهو ما سيعزز الطلب البنيوي على أصول الخزانة ويقلّص علاوة المخاطر في الأزمات بدل تصدير التقلب. وبالتالي تكون نقود “المعايير” -اذا ما جازت تسميتها- أهم من أن نكتفي بالتحذير من اليوان الصيني، لأن المعيار هو عملة بحد ذاته، والولايات المتحدة الأمريكية هي البلد الأقدر على كتابته.
ثانيا تأتي رقمنة العبور بالدولار عبر “إنترأوب” حقيقي، وهو ما سيساهم في توسيع ال ” فاد ناو “الى طبقة مدفوعات عبر-حدودية بالتشارك مع ما يسمى ب ” نادي التجديد”، وربطها تجريبيًا مع أنظمة فورية حليفة لدول، مثل أوروبا والمكسيك والهند، وفق واجهات برمجة موحّدة، مع تبنّي معايير امتثال مدمجة تساهم في تقليص كلفة الحوالة للمستخدم النهائي.
ويكون الهدف النهائي بكونه ليس منافسة عملات رقمية سيادية بقدر ما هو جعل الدولار أسرع وأرخص وأكثر شمولًا، لأن سرعة النقد تعني تفضيله. وبالتالي، حين تصبح المدفوعات بالدولار فورية وعبر الهواتف في الأسواق الناشئة، سيتقلّص أي إغراء للابتعاد عنه بحثًا عن “سهولة” بديلة.
ثالثًا، بناء “أمن طاقي مائون” يربط الدولار بالواقعة الفيزيائية، بتسريع تراخيص خطوط النقل وشبكات الجهد العالي، وحزم حوافز للغاز الطبيعي المُسال والطاقة النووية الصغيرة مع تعهدات شراء اتحادية طويلة الأجل. هذا لا يخص البيئة فقط؛ إنه يربط قوة الدولار بأصلٍ مُنتج: فإذا صارت أميركا مُصدّرًا ثابتًا للطاقة النظيفة والغاز خلال العقد المقبل، فستتوطّد مقايضات السلع وتسعيرها بالدولار، وسيُعاد تدوير الفوائض عالميًا في أصول الخزانة كما حدث بثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولكن في نسخة طاقية جديدة.
رابعًا، تحالف “أمن الشرائح” كترتيب مالي/صناعي: بمعنى تحويل الرقائق من منح متفرقة إلى شكل “نادي توريد مُؤمَّن” مع كندا والمكسيك واليابان وكوريا وتايوان وأوروبا الشرقية، يُقايض النفاذ للسوق الأميركية ووصول الدولار التفضيلي بمواءمة معايير التصدير والتفتيش والتراخيص. وتتم عبر هذا النادي إعادة توطين مراحل حساسة من تصنيع الرقائق والبطاريات والمعدات الدقيقة، ما يجعل الدولار مدعومًا بـ”سلسلة قيمة” وليست مجرد طباعة، كما ويُثبّت الإنتاجية الأميركية في الذكاء الاصطناعي والحوسبة المتقدمة، حيث ما تزال الولايات المتحدة تقود براءات الاختراع والتمويل المغامر. وبمنطق بسيط ف “كل شريحة تُصنع في أمريكا أو داخل التحالف تُضيف طبقة مناعة للدولار.
خامسًا، إستراتيجية دين ذكية تُخفّض حساسية السوق: عن طريق إعادة توازن جدول الإصدارات نحو آجالٍ أطول في فترات استقرار العائد، وتوسيع قاعدة مشتري ” التيبس”.
وربطها بمدراء صناديق التقاعد عالميًا عبر اتفاقات “جسر مؤسسي”، مع تفعيل قاعدة فيدرالية “إنذار مبكر للعجز الأولي” التي تُطلق تلقائيًا كوابح إنفاق/إيراد إذا انحرف المسار. والمقصود هنا ليس تقشفًا أعمى، بل قابلية تنبؤ مالية تُطمئن البنوك المركزية بأن الدولار لن يتآكل اسميًا بفعل تضخم دوري.
سادسًا، هجرة المواهب كسلاح تنافسي: عن طريق سنّ “تأشيرة ابتكار فورية لخريجي الدراسات العليا الأوائل عالميا، ومسار إقامة مُسَرَّع لمؤسسي الشركات التكنولوجيا العميقة الممولة أمريكيا. وفي النهاية يبقى الدولار الأمريكي هو رهان على المستقبل؛ وكل عقل لامع يجترّه وادي السيليكون هو نقطة إضافية على منحنى الطلب العالمي على أصولنا وأسواقنا.
وسابعًا، وعن طريقة دبلوماسية الاحتياط المختلط، وبدلاً من شيطنة الذهب الذي تشتريه البنوك المركزية، تُعلن واشنطن، عبر الخزانة والبنك الفدرالي الأمريكي، إطارًا استشاريًا طوعيًا لدولٍ صديقة لإدارة الاحتياط المختلط من: ذهب وسندات خزانة وودائع دولارية فورية، مع تسهيلات رهن الذهب مقابل خطوط تمويل بالدولار عند الأزمات. بهذا تتحول واشنطن من خصمٍ لشراء الذهب إلى “جهة تنظيمية” تُبقي الذهب داخل دائرة الدولار لا خارجها، وتمنع تسربه إلى ترتيبات تسوية تُدار بالكامل من بكين.
و لا تعتبر هذه الحزمة بيانات علاقات عامة، بل إنها خارطة طريق تعالج مكمن التحدي، وان خصم الدولار ليس اليوان بقدر ما هو تآكل الثقة. و عندما تُنزّل الولايات المتحدة هذه الخطوات إلى سياسات تشغيلية واضحة وتواريخ تنفيذ ومؤشرات قياس، ستسود حجة بسيطة على شاشات المستثمرين وصنّاع القرار حيث ما زال الدولار الأصل الأبسط والأعمق والأكثر سيادة قانونًا، ومع “النسخة 2.0″سيصبح أيضًا الأسرع والأرخص والأكثر اتصالًا بالاقتصاد الحقيقي..
و تعتبر هذه اللحظة مؤاتيه لأن “الأرقام” تقف مع واشنطن إذا أحسنت استغلالها، حيث لها هيمنة ساحقة في أسواق الصرف اليومية، وحصة احتياطي لا تزال الأكبر بفارق شاسع، الى جانب طلب أجنبي قياسي على السندات حتى مع تخفيض الصين لحيازاتها، واستثمارات صناعية/ تكنولوجية تُنبت قاعدة إنتاج جديدة بعد عقود من التفكيك.
وأمام هذه الوقائع، يبدو “حل الأزمة” أقل درامية وأكثر مهنية: بأن تقود الولايات المتحدة الأمريكية المعيار مرة أخرى، لا لأنها تملك مطبعة أكبر، بل لأنها قادرة على بناء نظام يثق به العالم، نظام تُسعّر فيه الطاقة بالدولار، وتُصنع فيه الشرائح داخل تحالف ديمقراطي، وتنتقل فيه المدفوعات في ثوانٍ عبر شبكات شفافة، ويجد فيه الذهب مكانًا منضبطًا كضمان احتياطي لا كراية تمرد. وعندها فقط، لن تُطفأ حرب الذهب والدولار لأن طرفًا انتصر على الآخر، بل لأن واشنطن جعلت الاختيار العاقل واضحًا ورابحًا للجميع.




