التطورات الميدانية في مناطق الصراع ـ إحاطة الأمم المتحدة

FYE – HN – Alkhader

 

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

قدّم المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دو جاريك، ظهر الاثنين إحاطة صحفية موسّعة ضمن سلسلة الإيجازات اليومية، انطلق فيها من ساحات الأزمات المفتوحة حول العالم، ومشهده الذي تتنازع فيه الموارد، من الشرق الأوسط إلى أفريقيا وآسيا، حيث تتدهور الأنظمة الصحية، وتتقطّع سبل الإغاثة، ويتسع النزوح الداخلي، ويعلو خطر المجاعة في بقع متعددة، بينما تنكمش التمويلات على نحو غير مسبوق.
قدمت الإحاطة صورة مركبة لشرق أوسط يشتد فيه الاختبار الإنساني. فاستهل “دو جاريك” تحديثه الصحفي اليومي عن غزة بما تشهده من دمار واسع واحتياجات متراكمة، وعن الجهود التي تضطلع بها وكالات الأمم المتحدة لإيصال المساعدات وتثبيت “حدود إنسانية” دنيا تحمي المدنيين، مذكّرًا بأن القانون الدولي الإنساني ليس توصية، بل التزامًا ينبغي احترامه من جميع الأطراف، وأن انتهاكه يهدد مبدأ الحماية المدنية برمّته. ولم يتوقف عند غزة، بل أشار إلى متابعة لصيقة لأوضاع العراق وسوريا واليمن كما السودان، ولا سيما في البقع التي يعاود فيها العنف الظهور أو يتغيّر فيها نمط السيطرة على الأرض بما يقيّد الحركة الإنسانية أو يشوّش خطوط الإمداد. كان واضحًا في نبرة المتحدث أن المنظمة تحاول الانتقال من لغة البيانات إلى سلوكٍ عمليٍّ أكثر تماسكًا، لكن الضغوط الواقعية مثل التمويل، ونقاط العبور، وأمن الفرق الميدانية، تجعل الطريق طويلًا ومطّرد التعقيد.
وعند محطة اليمن توقّف الزمن قليلًا، لأنّ القضية هناك لم تعد سؤالًا عن فجوة معيشية أو أطفالٍ على شفا الجوع فحسب، بل باتت أيضًا سؤالًا عن قدرة المنظومة على حماية نفسها كي تحمي الآخرين. طُرح موضوع احتجاز موظفي الأمم المتحدة في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) وما تسبّب به من تعطيل لبرامج أساسية وإرباك لوتيرة الوصول إلى الفئات الأشد هشاشة. هنا وجّهتُ إلى السيد ” ستيفان دو جاريك” السؤال المباشر: هل توجد قنوات تواصل أو تفاوض فعلية مع الجهة المسيطرة للإفراج عن الموظفين المحتجزين والمتهمين من طرف حركة أنصار الله الحوثي بالتجسس، خصوصًا بعد أن أُعلن عن إطلاق سراح خمسة عشر موظفًا دوليًا مع إبقائهم داخل المجمع وتقييد حركتهم والسماح لهم فقط بالتواصل مع عائلاتهم، فيما لا يزال آخرون رهن الاحتجاز؟ جاء الجواب على قدر القلق: المنظمة تتابع “بقلق شديد” الاتهامات التي وُجّهت إلى موظفيها وإلى العاملين الإنسانيين عمومًا، وتؤكد أن اتهامات التجسس خطيرة وغير مقبولة باعتبار موظفي الأمم المتحدة يضطلعون فقط بتقديم المساعدات والاهتمام بالجوانب الإنسانية لمحتاجيها، وتطالب بإفراجٍ فوري وغير مشروط عن جميع من تم تقييد حريتهم، لكنها في الوقت نفسه لا تعلن عن قنوات تفاوض قائمة أو اتفاقات جاهزة، وتكتفي بالقول إنها تحاول بذل أقصى ما تستطيع عبر الاتصالات القائمة وشركاء الميدان. لم تُقدَّم جداول زمنية، ولم تُذكر مسارات وساطة محددة، ولم يُعلَن عن عودة شاملة للأنشطة التي عُلِّقت في محافظات مثل صعدة. بل بقي الملف مفتوحًا على الغموض، كأنّ السؤال بات أكبر من حادثة احتجاج. والسؤال البديهي الذي يطرأ على بال المتابع يقول: كيف يمكن لبيتٍ أمميٍّ أن يعمل على إنقاذ الآخرين وهو نفسه مُعرّض للاقتحام والاتهام والتقييد؟
ومن خلف هذا المشهد الصعب ترتفع كُلفة السياسة على العمل الإنساني. فعندما تُطلق اتهامات بالجملة ضد المنظمات والوكالات الأممية بأنها تعمل “كذراع تجسّس”، فإن الضرر لا يقع على السمعة فحسب، بل يقع على قدرة الطواقم على الوصول، وعلى استعداد المانحين للاستمرار، وعلى ثقة المجتمعات المحليّة بجدوى التعاون. ومع أنّ المتحدث باسم الأمين العام، السيد “دو جاريك” شدّد على أنّ الأمم المتحدة “مستعدة للتعاون”، إلا أنه ذكّر بحقيقة لا مهرب منها: القرار ليس بيد المنظمة وحدها، بل هو رهن إرادات سياسية داخلية وإقليمية ودولية متشابكة، تضبط إيقاع الحدود وتسمخ او تمنع وتضيّق أو توسّع. وفي هذا السياق بدا واضحًا أن مبادرة الأمم المتحدة ليست شعار إصلاح إداري وحسب، بل هي محاولة لتجفيف الهدر والازدواجية كي يذهب كل دولار إلى حيث يجب، إذ لا يحتمل التمويل الإنساني اليوم أي ترف أو بطء: فالمنح تتقلص، والأزمات تتكاثر، والتنافس على الموارد يشتد حتى داخل الملف الواحد.
بعد اليمن عاد الحديث إلى محورٍ حضر بقوة بمناسبة مرور خمسةٍ وعشرين عامًا على قرار مجلس الأمن 1325 حول المرأة والسلام والأمن. عُرض تقرير الأمين العام، وتحدّثت قيادات من هيئة الأمم المتحدة للمرأة عن ضرورة الانتقال من الإقرار الأخلاقي إلى المشاركة الملموسة: من حماية النساء إلى إشراكهنّ في موائد التفاوض وصنع القرار، من إحصاءات الفجوات التعليمية والصحية والاقتصادية وغيرها الكثير إلى سياسات قابلة للقياس تُقفل تلك الفجوات. سألتُ ممثلات الهيئة عمّا أنجزته الأمم المتحدة فعليًا كي تمارس المرأة حقوقها مساوية للرجل في التعليم والعمل والتمثيل السياسي، بعيدًا عن اللغة الوصفية للأرقام. جاء الرد صريحًا بقدر ما هو موجع: تُنفَّذ زيارات ميدانية وتُقدَّم برامج دعم ضمن الموارد المتاحة، لكن الانكماش الحاد في التمويلات، وتزاحم الأزمات، وتردّي البيئات السياسية والأمنية، يحدّ من القدرة على تحويل كل توصية إلى واقع. فما بين الخطاب والنتيجة مسافةٌ مزعجة، تقولها الأرقام وتصرخ بها الميادين.
يتكامل المشهد بمنظومة تحاول إعادة ترتيب بيتها بإصلاحات هيكلية، وحقول أزمات تطلب المزيد في زمنٍ يعطي أقل، وسردية أممية تتقدّم خطوة ثم تصطدم بجدار الإرادات والسيادة والموارد. ما يعنينا صحفيًا من الإحاطة ليس قائمة العناوين بقدر ما هو الخيط الذي يجمعها: فالحاجة إلى تحويل “التنفيذ العملي” من عبارة متكررة إلى أسلوب عمل، وإلى جعل الاستجابة سريعة قليلة البيروقراطية، وإلى إعادة الاعتبار لأمن العاملين الإنسانيين كي لا يعودوا رهائن أيّ نزاع. اذ انه وبدون حماية طواقم الميدان، لا معنى لبلاغات الوصول ولا لتعهّدات التمويل ولا للخطط متعددة السنوات.
ويظل اليمن اختبارًا حاسمًا لهذه القدرة، فالقضية لا تتعلق بمجموعة موظفين وحسب، بل بميزان الثقة بأكمله، أي ثقة العاملين بأن مؤسستهم قادرة على حمايتهم، وثقة المجتمعات بأن الشعار الأزرق يجلب العون لا المشاكل، وثقة المانحين بأن كل دولار سيصل إلى المقصد. إذا إن تمكّنت الأمم المتحدة من تثبيت مسارٍ يضمن الإفراج الكامل وغير المشروط عن المحتجزين وإعادة تشغيل المقرّات تحت حماية قانونية واضحة، سيكون ذلك نقطة تحوّل؛ وإن عجزت، فستكون ضربةٍ قاسية لمكانتها كوسيط وفاعل إنساني. وبين هذين الاحتمالين تتحرك مبادرة الأمم المتحدة ” يو ان ٨٠” كي تفلت من ثقلها البيروقراطي وتحرر مواردها و تختبر نماذج تشاركية بين الوكالات وتوحد سلاسل الإمداد والخدمات المشتركة، أملا في أن تصل المساعدات أسرع وأرخص وأكثر وثوقًا
وبذلك تكون إحاطة الاثنين طويلة النفس قد خرجت كثيفة المضمون، قليلة الوعود الكبيرة، لكنها صريحة بما يكفي لتقول إنّ النظام الأممي يقف على حافة اختبار مركّب: بين حماية موظفيه في اليمن، وإحاطة المدنيين في غزة بسياجٍ إنساني لا يتهاوى، إضافة الى صيانة خطوط الاستجابة في السودان ومناطق أخرى من أفريقيا، ولا نغفل عن ذكر مواجهة عجز تمويلي يتسع. وما بين سؤالٍ معلّق عن مفاوضات غير موجودة حتى الآن لإطلاق سراح المحتجزين، وتأكيدٍ متكرر على “أننا كمنظمة أممية نحاول قدر استطاعتنا”، يتضح أن العالم يطالب بنتائج ملموسة، وأن الأمم المتحدة مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تُحوّل بياناتها إلى حماية، وإحاطاتها إلى أفعال، وأن تُثبت أن الإصلاح الإداري ليس غايةً في ذاته، بل وسيلةٌ لإيصال يدٍ أمينةٍ إلى من ينتظرها على الطرف الآخر من الخط .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى