قمة الصمت.. من الفول إلى الفنتانيل: حرب بلا هدنة بين واشنطن وبكين

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في الساعات التي سبقت اللقاء المرتقب بين الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” والرئيس الصيني “شي جينبينغ”، كانت ملامح التوتر تخفي وراءها شيئًا من الطمأنينة الغامضة. فتصريحات الرئيس الأمريكي التي تناوبت بين الهدوء والحدّة بدت وكأنها تمهّد لمشهد غير تقليدي في العلاقات الأمريكية/الصينية، مشهد لا يعتمد على الكلمات المنمقة ولا على البروتوكول المعتاد بقدر ما يعكس توازنات القوة في عالم يتغيّر بسرعة. فبينما تحدّث الرئيس “ترامب” في مناسبات متفرقة خلال الأشهر الماضية عن “الرسوم المتبادلة” و“الاستثمارات العادلة” و“إعادة ضبط العلاقة مع الصين”، كان المشهد يتشكل ببطء نحو ما يشبه إعادة تعريف كاملة لمعادلة المنافسة بين القطبين.
 تكررت في خطابات رئيس القوة العظمى في العالم، نغمة براجماتية واضحة: “نريد منهم أن يستثمروا في الولايات المتحدة، هذا أمر جيد.” جملة عابرة لكنها تختصر فلسفة الإدارة الجديدة التي ترى في الاقتصاد بوابة النفوذ وفي الرسوم الجمركية سلاحًا استراتيجيًا. ومع ذلك، كان الرئيس ترامب يوازن نبرته في كل مرة، محاولًا إقناع جمهوره بأن العلاقات مع الصين ليست عداءً مفتوحًا، بل سباق نفوذ محكوم بالمصالح. ففي مقطع آخر قال: “العلاقة التي سنقيمها مع الصين ستكون علاقة جيدة جدًا.” هذه العبارات التي بثتها قنوات إخبارية متعددة نقلاً عن وكالات عالمية بدت في ظاهرها مطمئنة، لكنها تخفي بين طياتها قلقًا أمريكيًا قديمًا من صعود الصين الصناعي والتكنولوجي، وهاجسًا أعمق يتعلق بفقدان السيطرة على السلسلة الإنتاجية العالمية.
 ولمن يتذكر تاريخ الثاني من أبريل الماضي حين عرض الرئيس الأمريكي لوحة “الرسوم المتبادلة” أمام الجمهور محددًا بالأرقام الفوارق بين التعريفات المفروضة من وإلى الصين، بدا كمن يقدّم درسًا في الاقتصاد السياسي أكثر منه خطابًا انتخابيًا. ذكر أن بلاد التنين، تفرض رسومًا تصل إلى 67%، ثم أضاف بنبرة تَحدٍّ أن هذه النسب “غير عادلة” وأن الولايات المتحدة “لن تبقى متفرجة.” لكن خلف تلك الجمل الحسابية تكمن فلسفة أعمق تتعلق بإعادة صياغة النظام التجاري العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. فـالرئيس الأمريكي، مثل كثير من القادة أصحاب التوجه الجماهيري عبر التاريخ، يرى في “إعادة التوازن التجاري” مسألة كرامة وطنية لا مجرد سياسة مالية.
 في إحدى اللقطات النادرة، جلس الرئيس “دونالد ترامب” بين وزرائه في اجتماع مغلق بثته معظم القنوات الإخبارية، وكانت وزيرة الزراعة الأمريكية “بروك رولينز” تتحدث بلهجة واثقة قائلة: “هذا أيضًا قضية أمن قومي، إضافة إلى إعادة إنتاج الكثير من الغذاء داخل البلاد.” ثم تابعت: “يجب أن نضمن للمزارعين سوقًا يبيعون فيه منتجاتهم، وعلينا أن نغيّر دوامة الاعتماد على الحكومة.” كان كلام الوزيرة رولينز يختصر التحوّل الأعمق في الخطاب الأمريكي: من الحديث عن الرسوم والميزان التجاري إلى الحديث عن الأمن الغذائي والسيادة الإنتاجية.
 بدا أن فول الصويا لم يعد مجرد ملف اقتصادي، بل صار رمزًا لاستعادة السيطرة على الأرض والإنتاج، وبذلك تحوّلت الزراعة إلى قضية أمن قومي في مواجهة الصين، مثلما تحوّل مخدرالفنتانيل إلى قضية أمن صحي وأخلاقي.
 ولمن يتذكر أيضا وفي مشهد آخر، ظهر الرئيس “ترامب” في لقطة من لقطاته داخل الطائرة الرئاسية متحدثًا عن المزارعين، مؤكّدًا أن “الصين ستعود للشراء قريبًا”، تلاها ظهوره في القاعة الذهبية بالبيت الأبيض محاطًا بأهالي ضحايا الفنتانيل، يتحدث بنبرة حزينة هذه المرة عن السم الآتي من الصين والذي “يقتل الآلاف من الأمريكيين، واعدًا بأن الإعدام سيكون العقوبة لمن يصنع هذه المواد ويرسلها إلى بلادنا.
 هكذا جمع الرئيس الأمريكي بين رمزين متناقضين: الفول الذي يغذّي الاقتصاد والفنتانيل الذي يقتل الناس، وكلاهما مرتبط بالصين في وعي الناخب الأمريكي. تحوّل بذلك الصراع التجاري إلى سردية أخلاقية تعبّئ الداخل ضد “الخطر الصيني” المزدوج: خطر اقتصادي وصحي في آن واحد.
 وبينما كان الخطاب في واشنطن يتصاعد بهذه اللهجة القريبة من الشعب، بدت الحكومة الصينية أكثر هدوءًا لكنها ليست أقل تصميمًا. فقد وصفت وزارة التجارة الصينية المقاطعة الأمريكية بأنها “عدائية وغير مبررة”، ثم ردّت بتقليص وارداتها من فول الصويا الأمريكي وتحويلها إلى البرازيل والأرجنتين، ما دفع الرئيس ” دونالد ترامب” للرد بآلية الدعم المباشر للمزارعين من أموال الرسوم الجمركية التي قال إنها “دفعتها الصين.” فيما ذهب الاقتصاديون الى القول بأنه مثبت أن الفاتورة قد دفعتها الخزينة الأمريكية، في واحدة من أكثر المفارقات دلالة على عمق الأزمة.
 ومع ذلك، نجح الرئيس “ترامب” في تحويل هذا الخلل إلى انتصار رمزي. فالمزارع الذي خسر السوق الصينية تحوّل في خطابه إلى بطل وطني “ضحّى مؤقتًا من أجل أمريكا أقوى.” لكن وفي خلفية هذه الخطابات، كان المشهد الدولي أكثر برودًا: حيث الأسواق تتأرجح، والشركات الكبرى تتحدث عن “إعادة سلاسل الإنتاج إلى الداخل الأمريكي”، بينما المحللون يحذرون من أن ما يبدو هدنة مؤقتة ليس إلا بداية فصل جديد من حرب طويلة الأمد.
 وبانتهاء القمة بين الرئيسين “ترامب” و”شي” دون بيان مشترك، بدا أن الصمت كان هو الرسالة الأقوى. فغياب المؤتمر الصحفي لم يكن صدفة، بل تعبيرًا عن عمق الفجوة، وعن رغبة الطرفين في ترك مساحة للغموض الاستراتيجي. أما في واشنطن، فكان واضحًا أن التفاؤل الذي ساد قبل القمة بدأ يتبدّد أمام لهجة المحللين الأمريكيين الذين وصفوا اللقاء بأنه “قمة الحد الأدنى”، لم تنهَر لكنها لم تُنتج جديدًا. فبعضهم رأى أن الحرب لم تعد اقتصادية فقط، بل تحوّلت إلى صراع رمزي على القيم والهيمنة، من فول الصويا إلى الفنتانيل، ومن أرقام الرسوم إلى روايات الكرامة الوطنية.
 وهكذا، خرجت واشنطن وبكين من اللقاء وهما تدركان أن العلاقة بينهما لم تعد علاقة شركاء متنافسين، بل خصمين متعايشين في صراع طويل الأمد. فهي اذا حرب بلا هدنة، تتبدل فيها الأسلحة بين الحقول والمختبرات، وبين الأسواق والموانئ، لكن عنوانها الدائم سيبقى واحدًا: “قمة الصمت.. من الفول إلى الفنتانيل.”
 
 



