عودة الكويت إلى أسواق الدين العالمية بثقةٍ مدروسة… إصدار سندات دولارية يعيد رسم خريطة التمويل والسيادة الاقتصادية

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

يستقبل سوق الدين العالمي دولة الكويت من جديد بعد غيابٍ دام سنوات، إذ أعلنت الدولة الخليجية في خطوة لافتة يوم الثلاثاء عن بدء تلقي العروض لإصدار سندات دولية مقوّمة بالدولار الأميركي ضمن ثلاث شرائح استحقاقية تمتد لثلاث وخمس وعشر سنوات، في إطار برنامجها العالمي لإصدار السندات.

“Global Medium Term Note Programme” لم يأتِ الإعلان مجرد إجراء مالي، بل حمل دلالات اقتصادية وسياسية متعددة، فالكويت التي طالما اتّسمت بسياساتها المالية المتحفظة، تعود اليوم إلى الأسواق العالمية بخطة مدروسة لاستعادة ثقة المستثمرين وتعزيز مرونتها الاقتصادية في زمن تتراجع فيه فوائض النفط وتتسارع فيه متطلبات التنمية والإصلاح.
وقد حُدّد السعر الاسترشادي للشريحة الأولى ذات الثلاث سنوات عند سبعين نقطة أساس فوق سندات الخزانة الأميركية، فيما جاءت الشريحة الثانية ذات الخمس سنوات بزيادة قدرها خمس وسبعون نقطة أساس، أما الشريحة الأطول، لعشر سنوات، فقد تم تسعيرها عند خمسٍ وثمانين نقطة أساس فوق السندات الأميركية المرجعية، وهي نسب تعكس توازناً بين جاذبية الإصدار من جهة، وتقييم الأسواق لمخاطر المنطقة والاقتصاد الكويتي من جهة أخرى. وأوضحت مصادر مالية أن الاكتتاب في هذه السندات يُعد بحجم معياري لا يقل عن خمسمائة مليون دولار للشريحة الواحدة، ما يعني أن إجمالي الإصدار مرشح لأن يتجاوز المليار دولار وربما أكثر تبعاً للطلب

ويُشارك في ترتيب الإصدار خمسة من كبريات البنوك العالمية هي: : Citigroup، Goldman Sachs، HSBC، وJPMorgan، وMizuho
ستتولى هذه المؤسسات مهام التنسيق العالمي وإدارة الدفاتر، في إشارة واضحة إلى أن الكويت أرادت من خلال هذا الاختيار أن تبعث برسالة ثقة للأسواق بأنها عائدة إلى الساحة الدولية عبر مؤسسات مالية رفيعة المستوى قادرة على ضمان التوزيع الواسع وجذب شريحة متنوعة من المستثمرين السياديين والمؤسساتيين. فالمشاركة الكثيفة لهذه البنوك تعني أن الإصدار لم يكن محلياً أو إقليمياً فقط، بل موجه بالأساس إلى المستثمرين العالميين الباحثين عن عوائد مستقرة في بيئة ما تزال تعاني من اضطرابات في السيولة والتضخم والفوائد.
وفي خضم هذه الخطوة، بدا أن الكويت لا تكتفي بمجرّد اختبار السوق، بل تريد أن تضع قدماً راسخة في مسار تنويع مصادر التمويل بعيداً عن الاعتماد الأحادي على النفط. فالإصدار يأتي في وقت تواجه فيه الموازنة الكويتية ضغوطاً متزايدة نتيجة تقلب أسعار الخام وارتفاع الإنفاق الجاري. كما أن غياب أدوات دين طويلة الأجل في السوق المحلي دفع الدولة إلى العودة إلى الخارج، مستفيدة من مستويات الدين العام المتدنية نسبياً ومن تصنيف ائتماني قوي نسبياً بين نظيراتها في المنطقة. وتؤكد مصادر اقتصادية أن هذه الخطوة يمكن أن تفتح الباب أمام برنامج متكامل لإصدارات مستقبلية منتظمة، ما دامت تُدار بعناية وتُوجَّه حصيلتها نحو مشروعات إنتاجية واستثمارية تخلق مردوداً اقتصادياً حقيقياً.
اللافت في هذا الإصدار أنّ الإقبال عليه تجاوز التوقعات الأولية. فقد أشارت تقارير مصرفية إلى أن حجم الطلب فاق عشرين مليار دولار خلال الساعات الأولى من فتح باب العروض، وهو ما سمح للكويت بتقليص الفارق السعري عن المستويات الاسترشادية المعلنة أولاً. ويعكس هذا الإقبال تعطش الأسواق للأوراق السيادية الخليجية التي ما زالت تُعدّ ملاذاً آمناً نسبياً مقارنة بعديد من الاقتصادات الصاعدة. ومع ذلك، فإن هذه الثقة ليست مطلقة، إذ يبقى المستثمرون متحسّبين من بطء الإصلاحات الاقتصادية وغياب قانون الدين العام في الكويت الذي كان قد عُلّق لسنوات بسبب الخلافات السياسية بين الحكومة والبرلمان، وهو ما جعل البلاد لفترة طويلة تعتمد فقط على السحب من الاحتياطي العام لتغطية العجز المالي.
وتكشف العودة الحالية عن إدراك كويتي متزايد بأن إدارة الدين ليست عبئاً إذا ما وُظفت في الاتجاه الصحيح، بل يمكنها أن تتحول إلى أداة تخطيطية لتوزيع الموارد وتحريك المشاريع الكبرى التي تأخرت كثيراً. فالكويت، رغم ثروتها النفطية، لم تنجُ من موجة التضخم والضغوط المالية التي اجتاحت المنطقة والعالم بعد جائحة كورونا وتداعيات الحروب والتوترات الجيوسياسية، فكانت بحاجة إلى إعادة تفعيل أدوات التمويل الدولية لتوسيع هامش المناورة المالية. وبذلك يمكن النظر إلى الإصدار على أنه جزء من عملية “إصلاح مالي هادئ” أكثر منه استدانة تقليدية، يهدف إلى بناء سجلّ موثوق في الأسواق العالمية وإعادة تعريف دور الدولة من ممول مباشر إلى مُنظِّم وموجِّه للاستثمارات.
لكن ومن جهة أخرى، لا يمكن فصل هذا التحرك عن البيئة النقدية العالمية. فالفائدة الأميركية ما تزال عند مستويات مرتفعة، والعوائد على سندات الخزانة الطويلة الأجل تقترب من قممٍ لم تشهدها منذ عقدين، ما يعني أن تكلفة الاقتراض ليست منخفضة، وأن الدخول إلى السوق في هذا التوقيت يعكس ثقة الكويت بقدرتها على تحمّل تكاليف الدين ضمن إطار مالي مستدام. ومع أن التسعير فوق السندات الأميركية يبدو مقبولاً في ضوء تصنيفها، فإن المحك الحقيقي سيكون في كيفية استثمار حصيلة الإصدار ومتابعة الشفافية في الإفصاح عن استخداماتها، إذ إنّ المستثمرين العالميين باتوا يولون أهمية متزايدة للحَوْكمة والحوكمة البيئية والاجتماعية ضمن تقييماتهم للسندات السيادية.
وتشير التحليلات إلى أن الكويت قد تستخدم حصيلة الإصدار لسد جزء من العجز المالي المتوقع في موازنة العام الحالي، أو لتجديد بعض الالتزامات المستحقة، أو حتى لتمويل مشاريع بنية تحتية ضمن خطة التنمية “ ضمن رؤية 2035”. ومهما كان الغرض النهائي، فإن الخطوة تعيد الكويت إلى خريطة الأسواق العالمية بعد غيابٍ دام ثمانية أعوام، وتمنحها موقعاً متقدماً بين الدول الخليجية التي نجحت في استغلال أسواق السندات لتأمين تمويل طويل الأجل بشروط تنافسية. ففي السنوات الماضية، شهدنا السعودية وقطر وأبو ظبي تهيمن على المشهد بإصدارات بمليارات الدولارات، والآن تعود الكويت لتقول إنها حاضرة أيضاً، لكن وفق إيقاعها الخاص ووتيرتها المحافظة.
ويقرأ المراقبون في هذا الإصدار أكثر من رسالة. فهو من جهة يعكس انفتاح الكويت على أدوات الدين الحديثة والتفاعل الإيجابي مع توصيات مؤسسات التصنيف الدولية التي طالبت مراراً بإعادة إحياء سوق السندات الكويتية، ومن جهة أخرى يبرهن على أن السياسات المالية في الدولة بدأت تتكيّف مع الواقع الجديد الذي يفرض تنويع مصادر الدخل وعدم الارتهان لعائدات النفط وحدها. كما أنه يعبّر عن ثقة داخلية متزايدة في الكوادر والمؤسسات المالية المحلية التي شاركت في الإعداد والتفاوض، وتهيئة المناخ القانوني والرقابي لهذا النوع من الإصدارات.
ومع أنّ التحديات ما زالت قائمة، من بطء الإصلاح إلى تعقيد الإجراءات البيروقراطية، إلا أن هذه الخطوة تُحسب للكويت كإشارة على النضج المالي والقدرة على التواصل مع الأسواق العالمية بلغة مفهومة ومقننة. فهي لا تستدين لتسدّ ديوناً قديمة، بل لتفتح أفقاً جديداً من التمويل التنموي، وتؤسس لثقافة مالية أكثر ديناميكية. وإذا ما تَبع هذا الإصدار خطة متوسطة الأجل لإدارة الدين العام وتحديد سقوف الاستدانة وجدول السداد بوضوح، فإن الكويت ستدخل مرحلة مختلفة تماماً في علاقاتها مع المستثمرين العالميين ومعايير الحوكمة الاقتصادية.
هكذا يمكن القول إنّ عودة الكويت إلى سوق السندات الدولية ليست حدثاً مالياً عابراً، بل تحوّل نوعي في طريقة التفكير الاقتصادي للدولة، وإشارة إلى رغبةٍ في التجديد والانفتاح على العالم بشروط مدروسة. ف “درة الخليج” كما تسمى، وهي تُقدّم أوراقها اليوم في أسواق المال الدولية، لا تراهن فقط على وفرة مواردها، بل على ثقةٍ تبنيها تدريجاً من خلال انضباط مالي وإصلاح هيكلي يعيد التوازن إلى اقتصادها. وبين حرصها على المحافظة على مكانتها الائتمانية العالية، وسعيها إلى مواكبة التحولات الاقتصادية في المنطقة، يبدو أنها تمضي في طريقٍ محسوبٍ بدقة بين التقليد المالي المحافظ والطموح التنموي العصري.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى