الفاشر…. عقدة دارفور التي تعيد رسم خريطة الحرب في السودان

من الفاشر (أرشيفية- فرانس برس)

 

نيويورك – زينة بلقاسم  – ألأمم المتحدة

صعد اسم الفاشر في الأيام الأخيرة إلى واجهات الأخبار ومحركات البحث بوصفها مسرحًا لأعنف فصول الحرب الدائرة في السودان منذ أكثر من 550 يومًا. أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها على مقرّ قيادة الفرقة السادسة مشاة حوّل المدينة التي تمثل عاصمة شمال دارفور، من مركزٍ إنساني وتجاري قديم إلى عنوانٍ لاختبار ميداني يرسم حدود النفوذ ومعادلات القوة، ويعيد فتح جروح الإقليم الذي تساوي مساحته مساحة فرنسا. ولأن الفاشر هي آخر معاقل الجيش في دارفور بعد انزلاق أربع ولايات إلى قبضة الدعم السريع، فإن سقوطها أو الصراع عليها لا يُقرأ كحدث موضعي، بل كنقطة انعطاف قد تُبدِّل خرائط الحرب ومسارات التفاوض ومستقبل الإقليم برمته.
تنبع أهمية الفاشر من موقعها الذي يشبك شمال ووسط وغرب دارفور، ومن كونها ممرًا تاريخيًا على خطوط التجارة المؤدية إلى ليبيا وتشاد ومصر، فضلًا عن انها تمثل وزنا ديمغرافيا وثقافيا لمدينةٍ نشأت في القرن السابع عشر كعاصمة لسلطنة دارفور. تبلغ مساحة شمال دارفور وحدها نحو أكثر من نصف مساحة الإقليم، وتقبع الفاشر على ارتفاع كبير ومساحات شاسعة و لطالما شكلت مزيجا تاريخيا مكنها من ضبط إيقاع المدينة و أعطاها قدرة على التأثير في الطرق، والإمداد، والحدود، والسردية الرمزية للحرب.
عسكريًا، مثّلت الفاشر قاعدة القيادة والسيطرة للجيش في الغرب، بمطارٍ استخدم لسنوات قاعدةً لوجستية ولتنسيق العمليات الجوية والبرية، وبمخازن سلاح رفعت وزنها في المعادلة. لذلك، بدا اندفاع الدعم السريع إلى عمق المدينة محاولةً لالتقاط جائزة استراتيجية تُكمل لها حلقة السيطرة شبه الكاملة على دارفور، وتفتح ظهرًا جغرافيًا ممتدًا نحو الحدود الليبية/التشادية/الأفريقية الوسطى، بما يسمح بإنشاء قاعدة عمليات وممرات للمناورة والإمداد غرب البلاد والتطلع إلى الوسط. على الضفة الأخرى، عُدّ ما جرى نكسة معنوية للجيش وخسارةً لرمزٍ إداري وعسكري، لكن مع احتفاظه بأوراق التفوّق الجوي وبقدرات قيادة في الشمال، وهو ما يقيِّد، وفق تقديرات عسكرية، قدرة الدعم السريع على الاندفاع عبر صحراء مفتوحة نحو مناطق نفوذ الجيش.
دخلت الفاشر عنق زجاجة كارثيًا، حيث تشهد نزوحا متصاعدا نحو الشمال الغربي، كما انها تحت عملية نهب واسع. أما إنسانيا، فتشهد انقطاعا في الإمدادات الطبية والغذائية، وارتفاع أسعار وصفت بالخرافية تحت الحصار، ما دفع السكان إلى تناول علف الماشية للبقاء أحياء. ومع تفكك الأمن واهتزاز سلطات الضبط، تصاعدت دوامات العنف القبلي والانتقامي بما يهدّد بإحياء مشاهد مطلع الألفية. هنا، تقف قوات الدعم السريع أمام اختبارات شرعية تتمثل في حماية المدنيين والمرافق، وفتح ممرات آمنة، الى جانب السماح للمنظمات الإنسانية بالوصول بلا عراقيل. سيحوِّل الفشل في هذا الامتحان أي مكسب ميداني إلى عبء سياسي وأخلاقي داخليًا وخارجيًا.
على مستوى ميزان القوى، رفع التقدّم في الفاشر معنويات الدعم السريع ورسّخ سردية “القوة المنتصرة”، بما قد يجذب أنصارًا جددًا ودعمًا قبليًا أوسع. وفي المقابل، شكّل ضربة موجعة للقوات المشتركة من الحركات الدارفورية التي فقدت مركزها الرمزي/السياسي، ما يهدّد تماسكها وقدرتها على التأثير. ومع أن بعض التقديرات ترى أن الدعم السريع غير مؤهل لفتح جبهات بعيدة في كردفان أو الخرطوم أو الشمال لأسباب بشرية ولوجستية، فإن تثبيت مكتسباته في دارفور يمنحه ورقة تفاوض أثقل ويُعقّد هندسة أي وقف إطلاق نار أو ترتيبات أمنية لاحقة.
تكشف معركة الفاشر كذلك هشاشة اقتصاد الحرب وبنى الخدمات: فتعطل المطار يربك سلاسل الإمداد المدنية والعسكرية معًا، كما وتحوّل المدينة من مركزٍ للإغاثة (قرب أبو شوك وزمزم) إلى نقطة عجز إنساني.
وتصبح الأسئلة الشرعية التي يمكن طرحها في وضع كالوضع الحالي في مدينة الفاشر: هل تستطيع أي سلطة أمر واقع إثبات قدرة حكم ومسؤولية حماية، أم أن المعركة ستبقى تبادلية الاستنزاف حيث يتقدّم طرفٌ داخل الأبنية ثم يتراجع لإعادة التموضع حفاظًا على القوة البشرية؟
أما سيناريوهات المدى القريب المطروحة فتدور بين تثبيت الوضع الجديد مع جيوب قتال ومساومات على الممرات، أو هجمات موضعية للجيش مدعومة بتفوّق جوي لقطع خطوط إسناد الخصم، أو ذهاب الأطراف، تحت ضغط الكارثة الإنسانية، إلى تفاهمات إنسانية تفصل بين الإغاثة والميدان. أمّا المسار السياسي، فتزيده الفاشر تعقيدًا: فلا “حكومة تأسيس” في دارفور ستكسب اعترافًا أمميًا أو إقليميا، ولا الخرطوم قادرة، في لحظتها الراهنة، على فرض تسويةٍ دون توازن قسري على الأرض.
وبين هذا وذاك، تُعيد الفاشر تعريف الحرب في السودان، فهي ليست معركة مدينةٍ فحسب، بل معركة ممرّ ومعنى، مماٌ يمسك بعصب دارفور وحدودها، ومعنى يُختبر فيه إن كانت القوة قادرة على ترجمة السيطرة إلى حكمٍ مسؤول وسلامٍ ممكن. وحتى يحدث ذلك، ستبقى المدينة عنوانًا لمأساةٍ إنسانية وضغطٍ استراتيجي، ودليلًا على أنّ الخرائط تُرسم اليوم بامتزاج النار والسياسة، وأنّ أي سلامٍ لن يعيش ما لم تتقدّم حماية المدنيين وفتح الممرات ومحاسبة الانتهاكات إلى رأس الأولويات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى