الذكاء الاصطناعي والطاقة: الإمارات رسم خريطة المستقبل من بوابة أدنوك

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في زمنٍ تتقاطع فيه السياسة مع التكنولوجيا، والاقتصاد مع البيانات، تبدو دولة الإمارات العربية المتحدة وكأنها تكتب فصلًا جديدًا في معادلة الطاقة العالمية، فصلًا لا يبدأ من آبار النفط، بل من خوادم الذكاء الاصطناعي ومراكز تحليل البيانات. اذ لم يكن معرض “أديبك” لهذا العام مجرد حدث نفطي تقليدي كما عرفه العالم لعقود، بل تحول إلى منصة فكرية وصناعية تؤسس لعهد جديد تحت عنوان واضح ومباشر تحت مسمى “تسريع التكامل بين الطاقة والذكاء الاصطناعي”.
ولم يكن غريبًا أن تتصدر شركة “أدنوك” هذا التحول، وهي التي باتت خلال السنوات الأخيرة عنوانًا لقدرة دولة الإمارات العربية المتحدة على الجمع بين الإرث النفطي والتطلع التكنولوجي. إذ أعلنت الشركة، خلال فعاليات “أديبك”، عن تحالف رباعي يضم كلًا من أدنوك ومصدر و “اكس آر جي” ومايكروسوفت، لتأسيس شراكة استراتيجية تهدف إلى تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعي في أعمال الطاقة، بما يرفع الكفاءة التشغيلية ويعزز الاستدامة ويقلل الانبعاثات.
للمتابع من بعيد، قد يبدو ذلك مجرد اتفاقية بين شركات، لكن للمتأمل الجيد فسيدرك بأن الواقع يحمل دلالات أعمق تتجاوز حدود الصناعة إلى إعادة تعريف مفهوم السيادة التقنية في مجال الطاقة. فحين يجتمع رأس المال الوطني الإماراتي مع العقول العالمية في بيئة واحدة، تتشكل معادلة جديدة تسمى “الطاقة من أجل الذكاء والذكاء من أجل الطاقة”.
و تبرز شركة مايكروسوفت في قلب هذا المشهد كشريك استراتيجي عالمي، ليس لتوفير البرمجيات أو الخدمات السحابية فحسب، بل لبناء مراكز بيانات عالمية تدعم الابتكار المستدام وتتيح تطوير مشاريع طاقة ذكية تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتحليلات المتقدمة. ولا تقتصر الاتفاقية على التشغيل أو الرقمنة، بل تمتد لتوسيع نطاق الحلول الرقمية التي ترفع كفاءة إدارة الأصول وتقلل فترات التوقف وتعزز الصيانة التنبؤية، وهو ما يعني باختصار أن المستقبل لم يعد يُدار من غرف التحكم النفطية فقط، بل من شاشات تحليل البيانات العملاقة.
لكن التحول لم يتوقف عند التقنية، بل شمل الإنسان أيضًا. فـ برامج تدريب الكفاءات الإماراتية أصبحت جزءًا أصيلًا من هذه الاتفاقيات، عبر عمل أكاديمية أدنوك على تأهيل جيل جديد من المهندسين والمبرمجين القادرين على فهم لغة الآلة كما يفهمون ديناميكيات الطاقة. وبالتالي يمكن الفهم بإنها رؤية لأن يكون الشباب الإماراتي ليس فقط مستخدمًا للتكنولوجيا، بل صانعًا لها، حيث سيقود مصانع الروبوتات ومراكز البيانات بنفس الروح التي شيد بها الأجداد قبل نصف قرن أولى الحقول النفطية.
وفي موازاة ذلك، وقّعت شركة “أدنوك” اتفاقيات جديدة مع شركة جيك روبوتكس لتوظيف الروبوتات والذكاء الاصطناعي في عملياتها الميدانية، وتطوير مشاريع تمتد لسنوات لتطبيق نظام “كانتيليفر” في أصول الغاز، مع بحث مع إمكانية تصنيع الروبوتات محليًا داخل دولة الإمارات لتلبية الاحتياجات التشغيلية في خطوة تعني ببساطة أن الصناعة الرابعة لم تعد حلمًا بعيدًا، بل واقعًا إماراتيًا قيد التنفيذ.
ولا يمكن قراءة هذه التحركات بمعزل عن الرؤية الاقتصادية الأوسع للدولة. فالإمارات العربية المتحدة، كما يؤكد الدكتور سلطان الجابر، تنطلق من نهج عملي وواقعي يوازن بين ضرورات أمن الطاقة ومتطلبات التحول المستدام. وكما قال في إحدى جلسات “أديبك”، ف “الطلب على جميع مصادر الطاقة سيواصل النمو خلال العقود المقبلة”، مضيفًا أن “العالم بحاجة إلى تعزيز مصادر الطاقة لا استبدالها”، وهي عبارة تلخص فلسفة إماراتية ترى أن الانتقال الطاقي لا يتحقق بالشعارات، بل بالاستثمار والعلم والتكنولوجيا.
ومن زاوية أخرى، يضع وزير الطاقة “سهيل المزروعي” النقاط على الحروف حين يصرح بأن “التوسع في الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات سيرفع حتمًا الطلب على الطاقة”، محذرًا من أن “تراجع الاستثمار في قطاعات الإنتاج قد يؤدي إلى أزمة مستقبلية مع انكماش المخزونات”. وبذلك يظهر وجه آخر للحقيقة يتمثل في أن مستقبل الطاقة، حتى في أكثر صوره رقمية، لا يمكن أن ينفصل عن النفط والغاز، بل يحتاجهما كأساس لتوليد الطاقة التي تُشغّل بها الآلات الذكية ذاتها.
ولعل الرسالة الأهم التي خرجت من أبو ظبي هذا العام هي أن التحول نحو المستقبل لا يعني القطيعة مع الماضي، بل استثماره بمنطق جديد. فالإمارات، التي بنت مجدها من الطاقة التقليدية، تعيد اليوم تعريف هذا المفهوم لتصبح الطاقة أداة للتنمية الرقمية لا عبئًا عليها، والذكاء الاصطناعي سيكون وسيلة لخفض الانبعاثات لا لزيادتها. وتعريفها ببساطة يمكن تسميته “ثورة صامتة” يقودها العلم والعقل.
أما على المستوى الجيوسياسي، فإن ما يجري في الخليج العربي يعيد تشكيل موازين القوى العالمية. فكما قال أحد المسؤولين الأمريكيين مؤخرًا، “المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، اليوم تعتبر أكثر أهمية من أي وقت مضى”، لأن مركز الثقل الاقتصادي والتكنولوجي ينتقل تدريجيًا نحو الشرق الأوسط، والامارات العربية المتحدة في طليعته. وبذلك تصبح أبو ظبي ليست فقط عاصمة للطاقة، بل مركزًا عالميًا للحوار بين النفط والذكاء الاصطناعي، وبين الصناعة والتقنية، وأيضا بين الحاضر والمستقبل.
وبالتالي يمكن استخلاص أنه لا يمكن النظر إلى اتفاقيات شركات “أدنوك” و”مايكروسوفت” وجي”كو روبوتيكس” وغيرها على أنها مجرد مشاريع تجارية، بل يجب النظر اليها كجزء من استراتيجية وطنية إماراتية لإعادة رسم خريطة الاقتصاد العالمي. فحين تضع دولة الإمارات الذكاء الاصطناعي في قلب صناعتها النفطية فإنها لا تواكب العالم، بل تسبقه بخطوة، وتؤكد أن الثورة القادمة لن تكون ثورة نفط أو سيليكون، بل ثورة اندماج بين الاثنين.
وبذلك ومن أبو ظبي إلى العالم، تتجسد الرسالة التي تلخص كل شيء: بأن ” الطاقة ليست مجرد وقود … بل إنها عقل المستقبل”.




