الاقتصاد العالمي ما بين قلق الأسواق وتحوّلات السياسة النقدية

الاقتصاد العالمي صورة تعبيريةا
نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
تشهد الأسواق العالمية في اليوم الثامن من شهر نوفمبر لهذه السنة حالة من الترقّب والاضطراب مع صدور مؤشرات اقتصادية متباينة تؤكد أن الاقتصاد الدولي يقف أمام مفترق طرق حقيقي. فبينما ترتفع أسعار الذهب مدفوعة بضعف العملة الأميركية وتزايد الرهانات على خفض أسعار الفائدة، تتراجع أسعار النفط بفعل مخاوف من فائض المعروض وتباطؤ الطلب العالمي، في مشهد يعكس تداخل السياسة بالاقتصاد والمال بالثقة.
يبدأ المشهد من أسواق الطاقة، حيث تراجعت أسعار النفط للأسبوع الثاني على التوالي بعد ارتفاع المخزونات الأميركية بما يفوق خمسة ملايين برميل، وهو ما أعاد إلى الأذهان شبح الفائض الذي شهدته الأسواق خلال أزمة الجائحة. واستقر سعر خام برنت حول ثلاثة وستين دولاراً للبرميل، فيما بلغ الخام الأميركي نحو تسعة وخمسين دولاراً. ويرى محللون أن استمرار الزيادة في الإنتاج، مع ضعف الاستهلاك الصناعي في كل من آسيا وأوروبا، قد يدفع الأسعار إلى مستويات أدنى إذا لم تُتخذ إجراءات لخفض الإنتاج أو ضبط الإمدادات.
في المقابل، واصل الذهب صعوده ليقترب من أربعة آلاف دولار للأونصة، في إشارة واضحة إلى عودة المستثمرين إلى الملاذات الآمنة. ويُفسَّر هذا الارتفاع بضعف العملة الأميركية وتزايد التوقعات بأن البنك المركزي سيضطر إلى خفض أسعار الفائدة في ديسمبر المقبل بعد تباطؤ مؤشرات التوظيف وتراجع مبيعات التجزئة. ويُنظر إلى الذهب الآن كأداة تحوّط أساسية في وجه التضخم وعدم الاستقرار المالي، خاصة بعد تزايد المخاوف من تباطؤ النمو الحقيقي في الولايات المتحدة.
أما في آسيا، فقد أعلنت الصين انخفاض صادراتها بنسبة تفوق الواحد في المئة خلال أكتوبر، وهو التراجع الأسوأ منذ أشهر، ما يعكس ضعف الطلب الخارجي وتباطؤ سلاسل التوريد. وفي اليابان، تشير التقديرات الأولية إلى احتمال انكماش الاقتصاد بنسبة تقارب اثنين ونصف في المئة خلال الربع الثالث من العام الجاري، نتيجة تراجع الصادرات وارتفاع تكاليف الإنتاج بفعل الرسوم الجمركية الأميركية. هذا التباطؤ الآسيوي يهدد بجرّ التجارة العالمية إلى موجة ركود جديدة إذا استمر لفصل آخر.
وتتجه الأنظار أيضاً إلى أسواق الأسهم، حيث بدأت مؤشرات التكنولوجيا تفقد زخمها بعد عام من الارتفاعات المتتالية. ويحذر خبراء المال من أن العالم يقترب من ثلاث فقاعات مالية كبرى: الأولى في قطاع الذكاء الاصطناعي الذي شهد تضخماً في التقييمات، والثانية في العملات الرقمية التي عادت إلى الارتفاع دون غطاء اقتصادي حقيقي، والثالثة في الديون الحكومية المتراكمة لدى الاقتصادات المتقدمة. هذه العوامل مجتمعة تثير مخاوف من تصحيحٍ واسع في الأسواق إذا ما تزامن أي اضطراب سياسي أو نقدي.
وتشير التحليلات الاقتصادية إلى أن الاقتصاد العالمي يعيش اليوم مرحلة “توازن هش”، فبينما لا يزال النمو قائماً في بعض القطاعات، إلا أن علامات الضعف تتزايد في أخرى. وفي الولايات المتحدة، تتراجع الثقة الاستهلاكية بفعل استمرار الإغلاق الحكومي وتأخر صرف الرواتب، فيما تتراجع ثقة الشركات الأوروبية بسبب تقلّب أسعار الطاقة وغياب رؤية تجارية واضحة. ومع ذلك، يبقى الاقتصاد الأميركي محور التوازن، إذ يُتوقّع أن يسجل نمواً سنوياً بنحو اثنين في المئة هذا العام إذا لم تحدث صدمات جديدة.
أما الأسواق المالية، فتبدو منقسمة بين التفاؤل والحذر. فالمستثمرون الذين استفادوا من الطفرة السابقة في أسهم التكنولوجيا والنفط بدأوا يعيدون توجيه رؤوس أموالهم نحو الأصول الآمنة والعقارات والمشروعات الخضراء. وفي المقابل، تشهد قطاعات مثل العقارات التجارية والمصارف تراجعاً في السيولة بسبب ارتفاع الفائدة الحقيقية وانخفاض الطلب على القروض.
الواقع أن المشهد الاقتصادي اليوم لا يعكس أزمةً آنية بقدر ما يعكس تغيراً في المزاج العالمي. فالعالم الذي اعتاد النمو السريع خلال العقدين الماضيين يبدو وكأنه يدخل مرحلة من “الواقعية الاقتصادية”، حيث لم تعد الأرباح المالية السريعة كافية لطمأنة الأسواق، ولا التطمينات السياسية كافية لاستعادة الثقة.
ويخلص المحللون إلى أن الطريق أمام الاقتصاد العالمي لا يزال مفتوحاً على الاحتمالات كافة. فإذا أحسن صناع القرار إدارة المرحلة المقبلة بسياسات نقدية أكثر توازناً، فقد يشهد العام المقبل بداية تعافٍ مستدام. أما إذا استمر التردد وتباطؤ الاستجابة، فإن العام الجديد قد يحمل مزيجاً من التضخم المرتفع والنمو الضعيف، وهو السيناريو الذي يحاول الجميع تجنبه.
في النهاية، يبدو أن الاقتصاد العالمي اليوم يهمس للعالم برسالة واضحة: لا يمكن شراء الثقة بالمال وحده، ولا استعادة النمو بالشعارات. وحدها الإصلاحات الجريئة، والتعاون بين القوى الكبرى، يمكن أن تمنح الأسواق العالمية استقراراً حقيقياً في زمنٍ أصبح فيه القلق عملةً يومية.




