اقتصاد الولايات المتحدة الامريكية بين الهشاشة والصمود

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اليمن الحر
في عام 2025، ومع عودة الرئيس “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض للمرة الثانية كرئيسٍ خامس وأربعين وسابع وأربعين في الوقت نفسه، عاد النقاش الاقتصادي في الولايات المتحدة إلى الواجهة بشكل أكثر حدة. فقد وعد الرئيس العائد إلى سدة الحكم بقوة، بإعادة بناء القوة الصناعية الأمريكية وخفض الضرائب مجددًا ومراجعة سياسات التجارة مع الصين والاتحاد الأوروبي، فيما يظلّ التضخم والدين العام وأسعار الفائدة في قلب الجدل الاقتصادي. يعتبرهذا المشهد الراهن ليس إلا حلقة جديدة في تاريخ طويل من الصعود والهبوط لاقتصاد الأمريكي بوصفه المحرك الأول للنظام الرأسمالي العالمي.
لكن إذا تطرقنا للاقتصاد الأمريكي فقد عاش منذ الأزمة المالية الكبرى سنة 2008 مراحل متناقضة حيث أدت أزمة الرهن العقاري وانهيار البنوك الكبرى مثل “ليمان براذرز” إلى ركود عالمي حاد، تراجعت فيه ثقة الناس بالأسواق والمؤسسات المالية. إلا أن تدخل الحكومة الفيدرالية، عبر خطة إنقاذ بلغت مئات مليارات الدولارات وسياسة نقدية توسعية قادها الاحتياطي الفيدرالي بخفض الفائدة وضخ السيولة أعاد الاقتصاد تدريجيًا إلى النمو. وجاء انتخاب الرئيس السابق “باراك أوباما” عام 2009 إيذانًا بمرحلة إصلاحات اقتصادية متوازية مع خطط تحفيز لدعم قطاعي الصناعة والسيارات وإنقاذ ملايين الوظائف.
أما في العقد التالي، أي بين 2010 و2019، فشهدت الولايات المتحدة أطول فترة نمو اقتصادي مستمر في تاريخها الحديث حيث تجاوزت عشر سنوات، انخفضت فيها البطالة إلى مستويات قياسية قاربت ال 3.5% عام 2019 وانتعش سوق الأسهم حتى بلغ مؤشر “داو جونز” أرقامًا غير مسبوقة. غير أن هذا النمو ظل غير متوازن؛ إذ استفادت الشركات الكبرى وقطاع التكنولوجيا على نحو استثنائي، بينما ظلت الطبقة الوسطى تعاني من ارتفاع تكاليف الصحة والتعليم والإسكان.
ثم جاء عام 2020 ليكشف هشاشة هذا الازدهار. فقد تسببت جائحة كورونا في أسوأ انكماش اقتصادي منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. فأغلقت الشركات وقفزت البطالة إلى أكثر من 14% في أبريل 2020، وتراجعت سلاسل التوريد العالمية. فلجأت الحكومة الأمريكية إلى واحدة من أكبر حزم التحفيز في التاريخ بلغت نحو 5 تريليونات دولار خلال إدارات الرئيسين ترامب وبايدن، عبر مساعدات مباشرة للأسر والشركات، مما ساعد على تجنّب انهيار شامل، لكنه رفع الدين العام إلى أكثر من 30 تريليون دولار.
مع إدارة الرئيس السابق “جو بايدن” الذي انتدت فترة حكمه من2021 الى2025، ركّزت السياسات الاقتصادية على إعادة بناء البنية التحتية من خلال خطة حملت اسم “البنية التحتية الخضراء” البالغة 1.2 تريليون دولار، إضافة إلى دعم التحول نحو الطاقة النظيفة كما وتشجيع الاستثمار في أشباه الموصلات لمواجهة الصين في مجال التكنولوجيا. لكن التضخم أصبح العنوان الأبرز خلال سنوات حكم “جو بايدن” خاصة بعد الحرب الروسية/الأوكرانية سنة 2022 اذ أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالميًا. ما دفع الفيدرالي الاحتياطي الى رفع أسعار الفائدة بشكل متسارع للسيطرة على التضخم، مما تسبب في ارتفاع تكاليف القروض الى جانب إثارة المخاوف من ركود جديد.
ويتوقع المراقبون اليوم في ظل الولاية الثانية للرئيس “دونالد ترامب”، أن يواصل الاقتصاد الأمريكي مسارًا متقلبًا بين وعود النمو عبر التخفيضات الضريبية ومخاطر العجز المالي المتزايد، وتوترات التجارة العالمية. ف”ترامب” يَعِد بإعادة التفاوض على اتفاقيات مع الصين والمكسيك وأوروبا لحماية “الوظائف الأمريكية”، بينما يحذر خبراء الاقتصاد من أن السياسات الحمائية قد تؤدي إلى حرب تجارية جديدة تزيد من تعقيد المشهد.
لكن إذا عدنا بالزمن إلى الوراء، ندرك أن هذه الدورة بين الازدهار والأزمة جزء من طبيعة الاقتصاد الأمريكي منذ نشأته. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، ضرب “الكساد الكبير” (1929–1939) الاقتصاد وأطاح بملايين الوظائف والبنوك، ولم يتعافَ سوى عبر “الصفقة الجديدة” (New Deal) التي أطلقها الرئيس “فرانكلين روزفلت”، ثم ازدهار ما بعد الحرب العالمية الثانية حين تحولت أمريكا إلى “مصنع العالم”. وشهدت فترة السبعينيات أزمة أخرى اذ واجه الاقتصاد صدمة نفطية وتضخمًا خانقًا عاد بعدها لينتعش في عهد رونالد ريغان عبر سياسة “النيوليبرالية” القائمة على تقليص دور الدولة وتحرير الأسواق.
وبذلك يظهر التاريخ أن الولايات المتحدة قادرة على إعادة ابتكار اقتصادها في كل أزمة تدفع معها ثمنًا اجتماعيًا وسياسيًا كبيرًا؛ فالتفاوت الطبقي اليوم هو الأعلى منذ عشرينيات القرن الماضي، والدين العام يهدد الأجيال المقبلة، والاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة حول مستقبل الوظائف التقليدية.
ومع ذلك، يبقى الاقتصاد الأمريكي الأكثر جاذبية عالميًا: فالدولار الأمريكي هو عملة الاحتياطي الأول في العالم وأسواقه المالية هي الأكبر والأكثر سيولة ولا نغفل عن شركاته التكنولوجية التي تقود الابتكار عالميًا من وادي السيليكون إلى بوسطن. كل هذه العناصر مشتركة تمنحه قدرة استثنائية على امتصاص الصدمات، حتى وإن بدا أحيانًا على حافة الانهيار.
وبذلك نتبين أن الاقتصاد الأمريكي في 2025 يقف عند مفترق طرق اذ أنه قوي بما يكفي ليبقى مركز الثقل في النظام العالمي لكنه هشّ بما يكفي ليصطدم بأي أزمة جديدة، سواء كانت صراعًا جيوسياسي مثل الصراع مع الصين أو أزمة الديون أو حتى صدمات المناخ المتكررة. وبالتالي يمكن القول انه بين وعود الرئيس ترامب وسياسات الاحتياطي الفيدرالي تبقى الولايات المتحدة في سباق دائم مع الزمن للحفاظ على مكانتها الاقتصادية كقائد لاقتصادات العالم مع الاستدلال بالتجربة التاريخية التي تقول إن أمريكا مهما تعثرت تعرف كيف تعود إلى الصدارة لكن دائمًا بثمن اجتماعي وسياسي يظل وقوده المواطن العادي.