شبح التجارب النووية يعود: بين استعراض القوة وتاريخ الردع النووي

تجربة نووية أميركية عام 1964 (غيتي)
نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في عالمٍ يبدو أنه لم يتعلم من حافة الهاوية التي بلغها خلال الحرب الباردة، عاد الحديث مجددًا عن التجارب النووية ليطل برأسه من موسكو وواشنطن في آنٍ واحد مع إمكانية انضمام الصين باعتبارها القوة النووية الثالثة (اذا تأكدت بداية التجارب النووية على أرض الواقع). ففي اجتماع لمجلس الأمن الروسي هذا الأسبوع، قال الرئيس “فلاديمير بوتين” إن بلاده تدرس إمكانية إجراء تجارب نووية جديدة، وذلك بعد أيام فقط من تصريح الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الذي أعلن فيه أن الولايات المتحدة ستبدأ برامج اختبار للأسلحة النووية. عبارة واحدة من الطرفين كانت كفيلة بإحياء أجواء توترٍ نووي ظنّ كثيرون أنها أصبحت من الماضي.
أكّد الرئيس الروسي، أن بلاده لا تزال ملتزمة بمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وهي الاتفاقية التي حظرت منذ توقيعها عام 1996 أي تفجيرات نووية في العالم، سواء لأغراض عسكرية أو علمية. لكنه أضاف بنبرة مشوبة بالحذر أن بلاده ستتخذ “تدابير مناسبة وسريعة” إذا بدأت الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى بإجراء تجارب فعلية. كانت تلك الجملة وحدها كفيلة بإعادة التذكير بزمن “الرد بالمثل” الذي حكم العلاقات بين القوتين لعقود طويلة، من أزمة كوبا إلى سباق الصواريخ في الثمانينيات.
وحافظت القوتان، منذ آخر اختبار نووي روسي في أكتوبر/تشرين الأول 1990، وآخر اختبار أمريكي في عام 1992، على تجميدٍ فعلي للتجارب، رغم أنه لم يتم التصديق الكامل على المعاهدة من قبل الولايات المتحدة. ولأكثر من ثلاثة عقود، كان العالم يرى في هذا التجميد “هدنة غير مكتوبة” بين عملاقي الردع. لكن مع تصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن خلال العقد الأخير، بدءًا من الأزمة الأوكرانية عام 2014، مرورًا بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الصواريخ المتوسطة المدى عام 2019، ووصولًا إلى تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة “نيو ستارت” العام الماضي، أصبحت تلك الهدنة هشة كخيطٍ رفيع بين قوتين لا يثق أحدهما بالآخر.
لم يأتِ الخطاب الأخير للرئيس “فلاديمير بوتين” من فراغ، بل من سياقٍ متصاعد من استعراض القوة النووية. حيث أعلنت موسكو في الأسبوع الماضي، نجاح اختبار طوربيد نووي تحت الماء يحمل اسم “بوسايدون”، يُعتقد أن مداه يتجاوز تسعة آلاف كيلومتر، وهو ما يراه محللون سلاحًا استراتيجيا قادرا على إحداث موجات تسونامي إشعاعية عابرة للقارات. وبعد ساعات فقط، رد نظيره الأمريكي على منصات التواصل الاجتماعي قائلاً إن “الولايات المتحدة لن تتخلف عن الآخرين” وإنه وجّه وزارة الحرب إلى بدء اختبارات على قدم المساواة. كان التصريح، الذي لم يكن متوقعًا حتى من بعض مستشاريه، كافيًا لإشعال نقاش عالمي حول سباق تسلح نووي جديد.
تؤكد منظمة “ان تي آي”- وهي مؤسسة بحثية مرموقة مقرها واشنطن- في بياناتها أن أي عودة إلى التجارب النووية ستعيد العالم إلى “نقطة الصفر” في منظومة الحد من التسلح، مشيرة إلى أن أكثر من ألفي تجربة نووية أُجريت منذ عام 1945، كان معظمها من نصيب الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق. وتكفي الأرقام وحدها لتذكير العالم بحجم الدمار البيئي والإنساني الذي رافق تلك التجارب والمتمثل بعضها في: التلوث الإشعاعي الذي طال المحيط الهادئ، وتشريد آلاف السكان في مواقع الاختبار من كازاخستان إلى نيفادا.
في هذا السياق، جاءت تصريحات وزير الدفاع الروسي “أندريه بيلوسوف” لتؤكد أن موسكو ترى في الخطوة الأمريكية “إشارة واضحة إلى تعزيز القدرات الهجومية الاستراتيجية”، بينما دعا رئيس الأركان “فاليري غيراسيموف” إلى التحرك الفوري، مشيرًا إلى أن موقع “نوفايا زيمليا”، الذي شهد خلال الحقبة السوفييتية أكثر من مئة تجربة نووية، “جاهز لاستئناف التجارب خلال أشهر إن تطلب الأمر”. ويعيد هذا التصعيد اللغوي إلى الأذهان صورة سبعينيات القرن الماضي حين كان كل تصريح في واشنطن يُقابله استعراض صاروخي في موسكو، والعكس صحيح.
لكن الفارق اليوم أن العالم أكثر هشاشة مما كان عليه آنذاك. فعدد الدول النووية ازداد، من خمس دول معترف بها في الستينيات إلى تسع اليوم، من بينها الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية، وكلها تراقب عن كثب أي شرخ في التوازن بين موسكو وواشنطن. كما أن التكنولوجيا الحديثة، من الذكاء الاصطناعي إلى الصواريخ فرط الصوتية، جعلت زمن الإنذار والردّ أقصر من أي وقت مضى، ما يعني أن خطأ واحدًا في التقدير قد يقود إلى كارثة لا عودة منها.
وتاريخيًا، كانت معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية ثمرة خوف جماعي من جنون سباق التسلح. فبعد أن أجرت الولايات المتحدة أكثر من ألف تجربة والاتحاد السوفييتي نحو 715، أدرك الطرفان أن أي تفجير جديد لن يزيد الردع، بل سيقرب الانهيار حتميا. لذلك جاءت المعاهدة لتضع “خطًا أحمر” أمام اختبار الأسلحة، لكنها ظلت حتى اليوم دون تصديق من بعض القوى الكبرى، وهو ما جعلها حبراً على ورق وخاصة في لحظات التوتر.
ويمكن القول اليوم، بأنه ومع التصريحات المتزامنة لرئيسي أقوى دولتين نوويتين “بوتين” و”ترامب”، يبدو أن هذا الخط الأحمر يتلاشى. فالعالم الذي خرج من الحرب الباردة محمّلًا بأمل نزع السلاح، يعود ليعيش هواجس الردع مجددًا، لكن هذه المرة في عصرٍ لم يعد فيه الصمت خيارًا ولا السرية ممكنة. فكل تغريدة، وكل اختبار، وكل تصريحٍ من عاصمتين نوويتين ينعكس في الأسواق، وفي مجالس الأمن، وفي أعصاب العالم كله.
وفي ظل هذا المشهد، تبقى الحقيقة المؤلمة أن سباق التجارب لا يُكسب أحدًا شيئًا سوى مزيد من الخوف. حيث التاريخ يقول إن الردع النووي منع الحرب الشاملة، لكنه لم يمنع الحروب الصغيرة التي أكلت أطراف العالم منذ خمسينيات القرن الماضي. وحين يعود قادة القوتين، اليوم، إلى التلويح بسلاحٍ كان يُفترض أن يبقى نائمًا في مخازنه، يبدو أن العالم يسير بخطى بطيئة وواثقة نحو استعادة كوابيسه القديمة، ولكن بثوبٍ جديد يزينه “الذكاء الاصطناعي” ومقاطع الفيديو القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي بدل نشرات الحرب الباردة.
لم تعد الاختبارات النووية فقط مسألة عسكرية، بل مرآة لأزمة الثقة بين القوى الكبرى. ومع كل تصريح جديد سوآءا من موسكو أو واشنطن، يتراجع الأمل في عالمٍ خالٍ من الخوف الإشعاعي. وربما سيأتي يومٌ يُقال فيه إن العودة إلى التجارب النووية لم تكن سوى البداية لنهاية مرحلة أخرى من أوهام “السلام المستقر” الذي لم يأتِ يومًا.




