التحولات الرقمية الكبرى بين خفض كوادر الذكاء الاصطناعي وأعطال الحوسبة السحابية: هشاشة الثورة التكنولوجية”

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اليمن الحر
في زمنٍ أصبحت فيه التكنولوجيا العمود الفقري للاقتصاد العالمي، تتوالى الإشارات التي تكشف أن الثورة الرقمية، رغم ضخامتها، لا تزال هشة في بعض ركائزها الأساسية. ففي حين أعلنت شركة ” منصات ميتا” تسريح نحو ستمائة موظف من وحدتها المتخصصة في” موقع خدمات منصات أمازون” للذكاء الاصطناعي، فقد واجهت الشركة انقطاعًا واسع النطاق في خدمتها السحابية أدى إلى شلل مئات المواقع والتطبيقات حول العالم. تبدو الحادثتان منفصلتين، لكنهما في الواقع تعبّران عن ملامح أزمة أعمق تمسّ طبيعة الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا الفائقة، وتعيد طرح سؤال: هل أصبح العالم الرقمي يسير أسرع مما يستطيع التحكم فيه؟
جاء قرار “ميتا” مفاجئًا في لحظةٍ كان يُفترض أن يشهد فيها قسم الذكاء الاصطناعي توسعًا، لا انكماشًا. فبعد سنوات من استثمار مليارات الدولارات في تطوير أنظمة تعلم الآلة والنماذج اللغوية، اختارت الشركة تقليص وحدات البحث الأساسية ضمن مشروعها المعروف بـ “فير”، بحجة إعادة التركيز على الكفاءة وتسريع اتخاذ القرار. ورغم التبريرات الإدارية، يرى خبراء أن الخطوة تحمل بُعدين متناقضين: فهي من جهة محاولة لتخفيض الكلفة التشغيلية في سوق تتسم بالمنافسة الشرسة مع شركات مثل و”جوجل”. ومن جهة أخرى دليل على أنّ حتى عمالقة التقنية OpenAI
لم يعودوا بمنأى عن ضغوط السوق والتمويل، وأن “الذكاء الاصطناعي” نفسه بات يواجه مفارقة تتمثل في أنه وكلما تطوّر، قلّ عدد البشر المطلوبين لتطويره.
أما في الجهة الأخرى، فقد سلط انقطاع خدمات ” آي دبليو اس” الضوء على هشاشة الاعتماد المفرط على البنى التحتية الرقمية المتمركزة في أيدي قلّة من الشركات. فخلال ساعات قليلة، تعطلت تطبيقات مصرفية وتعليمية ومواقع إخبارية عالمية، وتوقفت خدمات أساسية عن العمل بسبب عطل في مراكز بيانات في ولاية فرجينيا. ورغم أن الخدمة استُعيدت تدريجيًا، إلا أن الحادثة أثارت نقاشًا واسعًا حول مدى قدرة الاقتصاد الرقمي على الصمود في حال انهيار أحد أعمدته الكبرى. فالعالم الذي يبني اقتصاده على “السحابة” بدأ يدرك أن هذه السحابة ليست محصّنة من العواصف.
تكشف الحادثتان، في جوهرهما، عن وجهين لعملة واحدة و أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي والبنى السحابية دون وجود توازن بشري و تشريعي كافٍ أصبح اعتمادا مطلقا.
. فمن جهة، يجري تسريح آلاف المتخصصين في الذكاء الاصطناعي بحجة أن الخوارزميات يمكن أن تحلّ مكانهم؛ ومن جهة أخرى، تُثبت الانقطاعات التقنية أن تلك الخوارزميات لا تزال بحاجة إلى الإنسان وإلى إشرافه وخبرته ومراقبته. إنها مفارقة الحداثة الرقمية، فكلما ازددنا ذكاءً رقمياً، ازددنا هشاشة حين يتوقف هذا الذكاء عن العمل.
أما على الصعيد الاقتصادي، فيرى مراقبون أن موجة خفض العمالة في شركات التقنية العملاقة ليست مجرد سياسة تقشف، بل مؤشر على إعادة رسم خريطة الصناعة الرقمية، حيث تتجه الشركات إلى تقليص القوى العاملة البشرية لصالح الاعتماد على أنظمة مؤتمتة بالكامل. أما الأزمات التقنية مثل انقطاع ، فهي تحفّز نقاشًا حول السيادة الرقمية وضرورة تنويع مزوّدي الخدمات السحابية، حتى لا يبقى العالم رهينة لبضعة مراكز بيانات تديرها شركات أميركية كبرى.
ومع أن “ميتا” و“أمازون” كانتا في واجهة الحادثتين، إلا أن الرسالة التي تعبران عنها أوسع بكثير تعبر عن الفكرة التالية: “نحن أمام عصر جديد تُعيد فيه التكنولوجيا تقييم ذاتها. فشركات الذكاء الاصطناعي باتت تبحث عن التوازن بين الكفاءة والابتكار، وشركات الحوسبة السحابية مطالبة اليوم بإعادة بناء الثقة عبر ضمان المرونة والشفافية. وبين خفض الكوادر البشرية وانقطاعات البنى التحتية، يبدو أن الثورة الرقمية لم تعد قصة نجاح مطلقة، بل مشروعًا قيد المراجعة.
إن ما يحدث اليوم يعيد تعريف مفهوم “التحول الرقمي”: فليس الهدف فقط تطوير تقنيات أذكى، بل بناء أنظمة أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات. فالتكنولوجيا التي وُلدت لتبسط حياة البشر، أصبحت تحتاج بدورها إلى قواعد استقرار وحوكمة أخلاقية واقتصادية متينة. فبين “ذكاء ميتا” و“سحابة أمازون”، يقف العالم على مفترق طرقٍ بين الطموح والاحتراز، وبين الأتمتة المطلقة والتوازن الإنساني. ويبقى السؤال المطروح: هل تتعلم الشركات الكبرى من هشاشتها قبل أن يتعلم العالم من أخطائها؟




