الأمم المتحدة ورؤية السلام المستدام

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
وُلدت الأمم المتحدة من رحم الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، حاملةً على عاتقها منذ 1945 وعدًا للبشرية جمعاء ب”ألّا يتكرر ما حدث”. فقد كان فشل عصبة الأمم في منع الكوارث السابقة درسًا قاسيًا جعل واضعي ميثاق سان فرانسيسكو ينصّون منذ مادته الأولى على أن الهدف الأول للمنظمة هو حفظ السلم والأمن الدوليين من خلال التدابير الجماعية وردع العدوان وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية. غير أنّ هذا المبدأ النبيل اصطدم منذ اللحظة الأولى بواقع توازنات القوى داخل مجلس الأمن، حيث امتلكت الدول الخمس الكبرى متمثلة في: الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا حق النقض، ما جعل قرارات المجلس رهنًا بحسابات سياسية أكثر منها قانونية. ومع ذلك، طوّرت الأمم المتحدة أدوات عديدة مثل عمليات حفظ السلام التي انتشرت في عشرات البقاع، وإن بقي أثرها في كثير من الأحيان رمزيًا أكثر منه حاسمًا، كما حدث في مراقبة وقف إطلاق النار في الجولان أو جنوب لبنان.
ومنذ حرب فلسطين الأولى عام 1948 وما تبعها من إنشاء هيئة مراقبة الهدنة، كان الشرق الأوسط المسرح الأكثر اختبارًا لجدية وفعالية المنظمة الدولية. حيث صدرت قرارات تاريخية مثل 242 و338 التي أرست معادلة “الأرض مقابل السلام”، لكن غياب آلية تنفيذية حقيقية جعل هذه النصوص تظلّ حبرًا على ورق. ساهمت البعثات الأممية من “اليونيفيل” في لبنان إلى “أندوف” في الجولان في تخفيف التوتر لكنها لم تنه الاحتلال أو تعالج جذور النزاع. وعلى الجانب الآخر حاولت المنظمة وصل السلام بالتنمية عبر أجندة الألفية ثم أهداف التنمية المستدامة، مؤكدة أنّ الفقر والتهميش يغذيان النزاعات. لكنّ هذه الرؤية الطموحة ظلت تصطدم دومًا بالسياسات الواقعية للقوى الكبرى، وفي مقدمتها واشنطن، التي نظرت إلى قضايا المنطقة بعين أمنية واستراتيجية أكثر من إنسانية وتنموية.
دخلت الولايات المتحدة مرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها القوّة الوحيدة القادرة على قيادة النظام الدولي. وجاءت إدارة بيل كلينتون في التسعينيات لتمنح العالم مشهدين متناقضين: مصافحة ياسر عرفات وإسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض عام 1993 برعاية اتفاق أوسلو، واتفاق دايتون عام 1995 الذي أنهى حرب البوسنة. أوسلو مثّلت آمالًا فلسطينية/إسرائيلية كبرى لكنها انهارت مع اغتيال رابين وتوسع الاستيطان وضعف الضغط الأمريكي على تل أبيب. أما دايتون فقد عكس تصميمًا أمريكيًا مدعومًا بتحالف أطلسي وإرادة أوروبية على فرض السلام حتى وإن كان هشًا، فظل قائمًا حتى اليوم. وكان الدرس واضحًا: السلام يحتاج إلى ضمانات أمنية واقتصادية وآليات تنفيذ، لا إلى توقيعات رمزية. ولم توفر واشنطن في الشرق الأوسط ذلك، بينما فعلت في البلقان أين نجح المسار الأوروبي وفشل نظيره في فلسطين.
ثم جاء جورج بوش الابن ليدخل العالم في دوامة “الحرب على الإرهاب” عقب أحداث 11 سبتمبر 2001. فأطلقت إدارته خارطة الطريق للسلام عام 2003 بالتنسيق مع الرباعية الدولية، واضعةً هدف إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005، لكن الخطة تبعثرت بين استمرار الاستيطان الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني والانتفاضة الثانية. وفي الوقت نفسه شنّت واشنطن حرب العراق بعد شكوك بوجود أسلحة الدمار الشامل من دون تفويض مباشر من مجلس الأمن، لتفتح الباب أمام انهيار مؤسسات الدولة وانتشار الفوضى الطائفية والإرهاب. وجدت الأمم المتحدة نفسها لاحقًا في بغداد عبر بعثة “يونامي” تحاول إعادة البناء وسط انعدام الأمن. أما لبنان فشهد اغتيال رفيق الحريري وإصدار القرار 1559 الذي دعا لانسحاب القوات السورية وحل الميليشيات، لكن التنفيذ بقي نسبيًا. أكدت سنوات بوش أنّ واشنطن تستطيع إشعال الحروب لكنها تفشل في بناء السلام، بينما تبقى الأمم المتحدة عاجزة عن منعه أو عن فرض تسوية حقيقية بعد وقوع الكارثة.
حمل باراك أوباما إلى البيت الأبيض عام 2009 خطابًا مغايرًا، متعهدًا في جامعة القاهرة بفتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي. ركز خلال فترته على المفاوضات الفلسطينية/الإسرائيلية من دون نتيجة، فيما تحولت الأزمة السورية إلى حرب أهلية مدمرة لم توقفها خطوطه الحمراء. فقام بسحب قواته من العراق لكن الفراغ سمح بظهور داعش عام 2014، فعاد ليقود تحالفًا دوليًا ضده. ومع ذلك حقق اختراقًا كبيرًا بالاتفاق النووي مع إيران عام 2015، الذي أُقر بقرار من مجلس الأمن (2231) ومنح شرعية دولية للحد من الطموحات النووية الإيرانية مقابل رفع تدريجي للعقوبات. رأى فيه البعض انتصارًا للدبلوماسية المتعددة الأطراف، لكنه ظل موضع جدل لدى حلفاء واشنطن الإقليميين الذين اعتبروه تجاهلًا لأدوار إيران التخريبية في المنطقة. أما في ليبيا، أسقط تدخل حلف الناتو قائدها أنذاك معمرالقذافي بغطاء أممي، لكن غياب خطة ما بعد الحرب ترك البلاد غارقة في الفوضى وأوضح عهد أوباما أنّ العمل مع الأمم المتحدة قد ينجح في ملفات محددة، لكنه لا يعوض غياب الإرادة لحسم أزمات مفتوحة مثل سوريا.
أما خليفته الرئيس دونالد ترامب فقد دخل المشهد الدولي كرجل صفقات. اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها متحديًا قرارات الأمم المتحدة، ثم أعلن “صفقة القرن” التي منحت إسرائيل ما تريد وتركَت الفلسطينيين أمام كيان مقطع الأوصال. فقوبلت الخطة برفض كامل من رام الله وترحيب إسرائيلي. لكنّ المفاجأة جاءت مع اتفاقات أبراهام عام 2020 التي نجح عبرها في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ولاحقًا المغرب والسودان، ما فتح باب تعاون إقليمي واسعا. فبالنسبة للرئيس دونالد ترامب كان ذلك إنجازًا تاريخيًا، لكنه لم يتطرق إلى جوهر القضية الفلسطينية. في المقابل انسحب من الاتفاق النووي الإيراني وجمّد تمويل الأونروا وهاجم مجلس حقوق الإنسان و قدّم نموذجًا لسلام يقوم على صفقات اقتصادية وسياسية ثنائية، لكنه أضعف المرجعية الأممية وزاد عزلة واشنطن داخل الأمم المتحدة.
جاء بعده الرئيس جو بايدن عام 2021 بوعد إعادة الاعتبار للتحالفات المتعددة والدبلوماسية. فأعاد التمويل للأونروا وأعلن دعمه لحل الدولتين، لكن في الواقع لم يمارس ضغطًا جديًا على إسرائيل، ومع اندلاع حرب غزة الأخيرة، بدا التناقض الأمريكي في أوضح صوره: اذ امتنعت واشنطن عن التصويت على قرار 2728 الداعي لوقف إطلاق النار خلال رمضان، ثم استخدمت حقها في الفيتو ضد مشاريع أخرى اعتبرتها منحازة. وفي الوقت ذاته رعت مفاوضات غير مباشرة عبر مصر وقطر أدت إلى هدن مؤقتة وتبادل أسرى. استمر سقوط المدنيين في غزة بينما بقيت الأمم المتحدة تحذر من الكارثة الإنسانية من دون القدرة على فرض حل شامل. وبالنسبة للمنطقة الشرق أوسطية كان ذلك تأكيدًا أنّ الأولوية الأمريكية تظل في ضمان أمن إسرائيل قبل أي اعتبار إنساني، وأن مجلس الأمن عاجز أمام الفيتو الأمريكي.
وفي نوفمبر 2024 عاد الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض رئيسًا للمرة الثانية، ليصبح الرئيس الخامس والأربعين والسابع والأربعين في الوقت ذاته. فأعلن منذ أيامه الأولى أنه يريد تسجيل اسمه في التاريخ كرجل سلام عبر ملفين أساسيين ملتهبين في نفس الفترة وهما: الحرب الروسية/الأوكرانية وصراع الشرق الأوسط (إسرائيل/ غزرة). اعتمد مجلس الأمن في فبراير 2025 القرار 2774، وهو أول قرار مهم بشأن أوكرانيا منذ بداية ما اعتبرته روسيا عملية خاصة لاجتثاث النازية وحماية للناطقين باللغة الروسية في حين اعتبره الغرب غزوا روسيا لاوكرانبا و اعتداءا على سيادتها، داعيًا إلى وقف شامل لإطلاق النار. وبعد أشهر استقبل الرئيس ترامب نظيره الأوكراني في واشنطن وألمح إلى “ضمانات أمنية” لكييف مقابل تفاهمات مع موسكو، في تحرك وصفته صحف ووكالات أخبارية باختبار حقيقي لمهاراته التفاوضية. بينما واصل في الشرق الأوسط رعاية تفاهمات عبر مصر وقطر، لكن ومع إعلان حماس في شهرنا هذا أغسطس 2025 قبولها مقترحًا عربيًا لوقف مؤقت للنار وإطلاق رهائن، بدا وكأن صفقة تلوح في الأفق تنبئ بنهاية حرب مدمرة راح ضحيتها ما يتجاوز الستين ألف مدني غزي، جاء الرفض الإسرائيلي وتبريراته الأمنية التي تبقي الطريق مسدودًا، فيما بدت واشنطن داعمة ضمنيًا لاستمرار العمليات حتى تحقيق أهداف تل أبيب.
يكون بذلك الدرس من كل ما ورد في هذا المحتوى بأن السلام لا يولد من النوايا ولا من الصفقات المؤقتة، بل من التقاء المصالح مع القانون الدولي وضمان حقوق الشعوب واحترام كرامة الانسان. وتثبت كل تجارب العقود الماضية أن أي تسوية لا تحظى بشرعية أممية ولا تراعي جوهر النزاع ستبقى هشة.وفي حين نجحت أوروبا نسبيًا في البوسنة وكوسوفو بفضل شراكة أمريكية/أطلسية وأدوات أممية، يبقى الشرق الأوسط رهينة الوعود المعلقة والقرارات المعطلة. واليوم، ومع عودة الرئيس الحالي دونالد ترامب وتواصل أزمات غزة وأوكرانيا واليمن وسوريا الى لبنان وليس العراق ببعيد، يبقى السؤال مطروحًا: هل يستطيع النظام الدولي أن ينتج سلامًا حقيقيًا؟ أم سيظل هذا الأخير مجرد هدنة في انتظار حرب جديدة؟