الميكروبيوم… الجينوم الثاني الذي يعيد كتابة قصة الطب من جديد”

FYE – HN –

 

نيويورك – زينة بلقاسم – عين اليمن الحر

حين وقف الطبيب البريطاني “جيمس ماك الروي” على المنصة في قاعة مطعم بقلب مانهاتن نيويورك وسط حضور أمريكي من المهتمين بقطاع الطب والصحة والأبحاث ومستثمرين، لم يكن مجرد باحث يعرض نتائج دراسة علمية جديدة، بل كان يقدّم رؤية متكاملة لمستقبل الطب الإنساني. العرض الذي بدأ كخطاب تقني أمام مستثمرين وأطباء، تحوّل تدريجيًا إلى قصة عن الإنسان وجسده، عن التوازن بين الميكروبات التي تسكننا، وعن صناعة دواء يغيّر نظرتنا للصحة من أساسها.

FYE -HN
FYE – HN

 

منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق “بيل كلينتون” عام 2000 عن فكّ الشيفرة الوراثية للإنسان، بدا أن البشرية دخلت عصر الجينات الذهبي، وأن الأمراض المزمنة ستصبح من الماضي. لكن بعد عقدين من الأبحاث والاكتشافات، جاءت الحقيقة أقل وردية: علم الجينات وحده لم ينجح في إنهاء المعاناة مع أمراض مثل السرطان، والتهابات الأمعاء، وأمراض الكبد. هنا بالتحديد وُلدت فكرة “الجينوم الثاني”، المتمثل في الميكرو بيوم؛ ذلك العالم الخفي من البكتيريا التي تسكن أجسادنا وتؤثر على صحتنا ومزاجنا وسلوكنا.
من هذه الفكرة تأسست شركة “إنترا بايوتكس” عام 2017، على يد الطبيب الشاب “ماك الروي” رفقة ثلة من زملاء المهنة والباحثين المختصين الذين جمعوا بين الطب والصيدلة والعلم وريادة الأعمال. كان سؤال الدكتور “ماك” البسيط “ماذا لو كان علاجنا في بكتيريا نعيش معها منذ الولادة؟” سؤال، قاده إلى إنشاء فريق بحثي متخصص في دراسة الميكروبات المعوية وكيفية تحويلها إلى علاج دوائي حقيقي. ومن هنا بدأت رحلة التمويل والاختبارات، فالشركة استطاعت جمع أكثر من 70 مليون دولار حتى الآن، وتسعى لجمع 20 مليونًا إضافية لإكمال المرحلة الثانية من التجارب السريرية.
القصة التي رواها “ماك الروي” للمستثمرين كانت تبدأ من عام 1958، عندما أجرى الجراح البريطاني “بن يامين” أول عملية زرع براز، وهي تقنية تقوم على نقل ميكروبات من شخص سليم إلى آخر مريض. كانت هذه العملية آنذاك بدائية وغريبة، لكن نتائجها أثبتت فعالية مذهلة. واليوم، بعد أكثر من 200 ألف عملية مماثلة في الولايات المتحدة وحدها، تحوّلت الفكرة إلى نهج علمي معتمد. غير أن العوائق التقنية ظلت كبيرة: فالحصول على متبرعين مناسبين، وفحص العينات، وتحضيرها في بيئة معقمة، كل ذلك جعل من العلاج أمرًا صعب التعميم.
من هنا جاء ابتكار “إنترا بايوتكس”: كبسولة صغيرة اسمها ABX-10202 تحتوي على أكثر من 400 نوع من البكتيريا المفيدة، يمكن حفظها في الثلاجة لأكثر من عامين دون أن تفقد فاعليتها. نجحت الشركة في تثبيت هذه البكتيريا الحساسة للأوكسجين داخل مسحوق أبيض عديم الرائحة، مما جعل العلاج جاهزًا للاستعمال الفوري، دون حاجة إلى عمليات معقدة. يشرح الدكتور “ماك الروي” قائلاً: “لقد جعلنا من الميكروبات أداة طبية يمكن للطبيب وصفها مثل أي دواء آخر، لكنها قادرة على إعادة التوازن الكامل للجسم.”
وشملت التجارب السريرية التي أجرتها الشركة مرضى القولون العصبي وتليّف الكبد، وأظهرت نتائج واعدة. ففي تجربة شملت 62 مريضًا بمتلازمة القولون العصبي المصحوبة بالإمساك، سجل المرضى الذين تناولوا الكبسولة تحسنًا ملحوظًا في الأعراض والألم وجودة النوم على مدى عشرة أسابيع، مقارنة بالمرضى الذين تناولوا علاجًا وهميًا. رغم أن النتائج الأولية ما زالت في مراحل مبكرة، إلا أن الأرقام كانت كافية لإقناع المستثمرين بتمويل المرحلة التالية التي ستشمل 200 مريض وتستمر لمدة 12 أسبوعًا بإشراف إدارة الغذاء والدواء الأمريكية.
حين نحلل العرض بعيون الصحافة العلمية، نجد أن عناصر القصة الخمسة متكاملة بوضوح. ونبدأ بأسئلة بديهية لكنها مهمة نجد أن الطبيب “جيمس ماك الروي”، طبيب بريطاني ورائد أعمال أسس شركة طبية تعتمد على أبحاث الميكرو بيوم، الذي قدم مشروع دواء جديد يعتمد على كبسولات تحتوي على ميكروبات معوية حية لعلاج أمراض الجهاز الهضمي المزمنة. بدأ رحلته البحثية والاستثمارية في المملكة المتحدة، حيث تتم جميع مراحل التصنيع والاختبار في مختبرات الشركة بلندن. وقد أُعلن عن المشروع عام 2025 ضمن عرض لجولة تمويل جديدة بعد سنوات من التجارب السريرية الناجحة. وذلك، لأن العلاجات الجينية والأدوية التقليدية لم تعد كافية لعلاج الأمراض المعقدة التي تنبع من اختلال الميكروبات داخل الجسم.
و بالتالي و من خلال تحويل عملية زرع البراز القديمة إلى علاج دوائي متكامل في كبسولة قابلة للحفظ والاستخدام الجماهيري جعل رحلته البحثية الى جانب أصدقاء مهنته يتقدمون بثبات في ابراز تميز و نجاح مشروع قد يحدث نقلة نوعية في مجال الطب البحثي.
وما يميز هذه القصة ليس فقط التقنية، بل الفلسفة الكامنة خلفها. فبدل أن ينظر العلم إلى الإنسان ككائن جيني بحت، أصبح يُنظر إليه اليوم كمنظومة بيئية متكاملة، حيث أن كل مريض هو عالم صغير من البكتيريا، وكل علاج ناجح يجب أن يعيد هذا التوازن الداخلي. ومن هنا يأتي وعد الشركة بمستقبلٍ لا تُعالج فيه الأمراض فقط، بل تُستعاد فيه الصحة بمعناها الأوسع.
وبالانتقال الى المستثمرين الذين حضروا العرض خرجوا بانطباع واحد: أن شركة “إنترا بايوتكس” الناشئة لا تقدم منتجًا تجاريًا فحسب، بل تفتح بابًا لثورة في الطب الحديث. و بأن الشركة صاحبة الثماني سنوات فقط والتي تملك براءات اختراع، تمتد حتى عام 2040 وتسيطر على سلسلة إمدادها بالكامل، تبدو في طريقها لتصبح رائدة عالمية في مجال العلاجات الميكروبية. وبذلك تكون النتيجة المباشرة المتوقعة من هذا المشروع ليست فقط دواءً جديدًا، بل تحوّل جذري في الطريقة التي نفهم بها أجسادنا.
وبالتالي يمكن القول إن عرض الدكتور “جيمس ماك الروي” لم يكن مجرد نداء استثماري، بل رسالة علمية إلى العالم بأن الطب الذي بدأ مع الجينات يكتمل اليوم بالميكروبات. وما بين العلم والتكنولوجيا، يقف الإنسان من جديد في مركز المعادلة، ليس كموضوع للدراسة، بل كمنظومة حية تبحث عن توازنها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى