السودان … حربٌ عِرقية تتعمّق وأزمة إنسانية تتصدّر المشهد الدولي

© WFP/Abubakar Garelnabei أم تحمل رضيعها في بورت سودان، شرق السودان.

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

السودان … حربٌ عِرقية تتعمّق وأزمة إنسانية تتصدّر المشهد الدولي
يتصاعد العنف في السودان مع دخول الحرب عامها الثالث، اذ سجّل تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في سبتمبر 2025 ارتفاعًا كبيرًا في عمليات القتل ضد المدنيين اذ تجاوز عدد المدنيين الذين قُتلوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة بين يناير ويونيو فقط، معظمهم في إقليم دارفور، أي ما يقارب 80% من حصيلة العام الماضي كاملة. ويوضّح هذا التقرير أن كثيرًا من هذه الوفيات نتجت عن قصف مدفعي وضربات جوية بالطائرات والمسيّرات في مناطق مكتظة بالسكان، ويضيف أن موجة جديدة من الإعدامات الميدانية ارتفعت بشكل خطير، إذ سُجّل مقتل نحو 990 شخصًا بهذه الطريقة خلال النصف الأول من هذه السنة وحدها، فيما تضاعف المعدل ثلاث مرات ما بين فبراير وأبريل عندما استعاد الجيش السيطرة على الخرطوم من قوات الدعم السريع.
يؤكد شهود عيان أن القوات المسلحة السودانية نفّذت حملات تفتيش في أحياء مدنية شرق النيل، حيث أُعدم مراهقون لا تتجاوز أعمارهم 14 أو 15 عامًا بدعوى انتمائهم للدعم السريع. وتصف مفوضية حقوق الإنسان هذا النمط من الانتهاكات بأنه جريمة منهجية مدفوعة بالهوية العرقية، إذ يتم استهداف جماعات مرتبطة بأحد طرفي النزاع على أساس ارتباط عرقي وتاريخي. كما وتنبّه المسؤولة الأممية “لي فونغ” إلى أن التقسيمات الإثنية القديمة التي تراكمت لعقود من التهميش وعدم المساواة أصبحت وقودًا مباشرًا لحربٍ تستعر في كل زاوية من السودان.
. يتحوّل إقليم دارفور مجددًا إلى مسرح للمأساة الكبرى، اذ تشهد مدينة الفاشر، آخر معقل للجيش في الإقليم، هجمات متكررة، فيما تتعرض مخيمات النازحين مثل زمزم وأبو شوك للقصف. يشهد الوضع الإنساني انهيارا متسارعا ويجد المدنيون أنفسهم محاصرين بين طرفين يتبادلان الاتهامات وينفيان عمدًا استهداف السكان. ومع ذلك، تُظهر الوقائع على الأرض أن المجتمعات العرقية تُقتل لأنها وُصِمت بالانتماء السياسي أو العسكري.
تحوّل السودان إلى أكبر أزمة إنسانية في العالم بحسب الأمم المتحدة، فتُظهر البيانات مليون، أن ثلاثين مليون شخص بحاجة إلى المساعدات بينهم ١٦ مليون طفل، فيما تتفاقم معدلات النزوح واللجوء. يعاني السودان أيضًا من اسوا تفش للكوليرا خلال أربع سنوات، حيث سجلت أكثر من ألفين وخمسمائة إصابة في الخرطوم منذ مطلع السنة الحالية. مع تحذيرات من انتشار أوسع إذا عاد السكان بأعداد كبيرة إلى العاصمة. تحذّر اللجنة الدولية للصليب الأحمر من “كارثة صحية وشيكة”، وتؤكد أن انهيار النظام الصحي يجعل البلاد عاجزة عن مواجهة الوباء.
يعود أصل الأزمة إلى أبريل 2023، عندما انفجر الخلاف بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. اذ يتهم كل طرف الآخر بمحاولة السيطرة على، فيما تحوّل النزاع بسرعة إلى حرب شاملة وتسببت المعارك في تدمير البنية التحتية الأساسية، وانقطاع الكهرباء والمياه، وتراجع الاتصالات وتتسع دائرة القتال إلى دارفور وكردفان والخرطوم، وأصبح التطهير العرقي والعنف الجماعي السمة البارزة لهذا النزاع.
يفشل مجلس الأمن مرارًا في إيقاف العنف ويستمر في المطالبة بوقف العنف، كما وطالب بقرارات متكررة لوقف إطلاق النار وإيصال المساعدات، لكن الفيتو والانقسامات الدولية يعطلان التدخل الفعلي، اذ تستخدم روسيا والصين لغة تؤكد على “سيادة السودان” ورفض التدخل الخارجي، فيما تضغط الولايات المتحدة ودول أوروبية لفرض عقوبات أشد على المسؤولين عن الجرائم. بينما يظل المجلس مشلولًا، فيما يواصل المدنيون دفع الثمن.
يحاول الاتحاد الأفريقي ومنظمة ال”إيغاد” إطلاق مبادرات حوار، لكن الأطراف على الأرض لا تُبدي مرونة. تُظهر المفاوضات المتقطعة في “جدة” وغيرها أن الهوة بين المتحاربين لا تزال عميقة الهوة بين المتحاربين لا تزال عميقة. تسعى الأمم المتحدة عبر مبعوثيها إلى وقف استهداف المدنيين، لكنها تعترف بأن الوضع يزداد تعقيدًا مع ظهور قوات قبلية وميليشيات محلية جديدة تدخل الصراع.
تتّسع الكارثة لتطال دول الجوار، اذ تعاني تشاد وجنوب السودان ومصر وإثيوبيا من تدفق مئات الآلاف من اللاجئين، وتتحوّل الأزمة إلى تهديد إقليمي يهدد الأمن الغذائي والاقتصادي، بينما تستنزف الموارد المحدودة لهذه الدول. تدعو مفوضية اللاجئين المجتمع الدولي لزيادة الدعم، محذّرة من أن التداعيات لن تبقى محصورة داخل حدود السودان.
تُظهر الأرقام حجم المأساة: آلاف القتلى منذ بداية الحرب، ملايين النازحين داخليًا، مئات الآلاف من اللاجئين إلى الخارج، اقتصاد منهار، عملة نقدية فقدت قيمتها وتضخم تجاوز 200%، الى جانب انهيار الخدمات الأساسية. يصف مسؤولو الأمم المتحدة الوضع بأنه أكبر كارثة إنسانية حالية على وجه الأرض، متجاوزة حتى أزمات سوريا واليمن من حيث عدد المحتاجين إلى المساعدة.
تتداخل الاعتبارات الجيوسياسية، اذ ترى بعض القوى الدولية أن الحرب السودانية تعكس صراع نفوذ بين محاور إقليمية: محور تدعمه مصر والسعودية مع الجيش، مقابل دعم ضمني من أطراف أخرى للدعم السريع. وتستخدم القوى الكبرى الملف السوداني كورقة في صراعاتها الأوسع، ما يجعل الحل أكثر تعقيدًا، وشبه مستحيل في الوقت الراهن.
يظهر السودان في أروقة الأمم المتحدة كنموذج لفشل المجتمع الدولي في منع الأزمات من التدهور، اذ تصدر الجمعية العامة قرارات رمزية ويطلق مجلس الأمن بيانات، وتعقد جلسات استماع، لكن لا شيء ولا مجهود يوقف الرصاص بينما يظل الشعب السوداني وحده في مواجهة الموت والجوع والأمراض.
يبقى السؤال المطروح: هل تستطيع الأمم المتحدة أن تتجاوز انقساماتها وتفرض هدنة إنسانية شاملة؟ أم سيبقى السودان شاهدًا جديدًا على عجز النظام الدولي عن حماية المدنيين؟ وبينما تتواصل عمليات القتل العرقي في دارفور وتستمر الانتهاكات في الخرطوم، يبدو أن الإجابة لم تأتِ بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى