قرار الجمعية العامة لإحالة الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية: تفاصيل لا بد منها

أ / عبد الحميد صيام – القدس العربي

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد السادسة من مساء الجمعة 30 ديسمبر 2022 على مشروع قرار جاءها من اللجنة الرابعة (لجنة تصفية الاستعمار) يتضمن بندا يطلب من الجمعية أن تحيل مسألة الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية، لإصدار فتوى قانونية في مسألتين مهمتين سآتي على ذكرهما بالتفصيل. وقد صوتت 87 دولة بـ»نعم» و26 دولة بـ»لا» وامتناع 53 دولة.
واعتبرت السلطة الفلسطينية ذلك إنجازا تاريخيا لها ولجهودها الحثيثة، منذ أكثر من خمس سنوات، وأن هناك تأييدا دوليا شاملا لإدانة الاحتلال وضرورة محاكمته في أعلى سلطة قضائية. ولاحظت أن عددا من رموز السلطة الذي عملوا مداخلات على الفضائيات العربية (وظهرت مرتين مع اثنين منهم) أنهم لم يقرؤوا القرار بالتفصيل، بل أغفلوا جوانب مهمة فيه. وسأحاول أن أوضح خلفية هذا القرار وأتابع مراحل التصويت عليه وأهميته.
البداية من لجنة التحقيق الدولية
في تقريرها الأخير للجمعية العامة بتاريخ 22 أكتوبر أوصت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس وإسرائيل، التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في مايو 2021 وترأسها نافي بيلاي، بضرورة أخذ رأي قانوني من محكمة العدل الدولية في مسألتين أساسيتين:
(أ) التبعات القانونية الناشئة عن انتهاك إسرائيل المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، واحتلالها الطويل الأمد، واستيطانها وضمها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التكوين الديمغرافي والطابع ومكانة مدينة القدس الشريف، ومن اعتمادها للتشريعات والإجراءات التمييزية ذات الصلة.

أهم ما سيصدر عن محكمة العدل هو وسم الاحتلال بأنه غير قانوني، وفي حالة انتهاك للقانون الدولي، ثم يطلب من أجهزة الأمم المتحدة ودول العالم أجمع أن تتعامل معه على هذا الأساس

(ب) تأثير السياسات والممارسات الإسرائيلية المشار إليها في الفقرة (أ) على الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية التي تنشأ بالنسبة لجميع الدول والأمم المتحدة من هذا الوضع.
أحيل هذا التقرير المهم إلى لجنة تصفية الاستعمار، المتخصصة في كل ما يتعلق بقضايا الاستعمار والاحتلالات وانتهاكات حقوق الإنسان. ولحق به تقرير المقررة الخاصة لحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، بتاريخ 27 أكتوبر، الذي قالت فيه بالحرف «إن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني ولا يمكن تمييزه عن الوضع «الاستيطاني-الاستعماري، ويجب أن ينتهي كي يتمكن الفلسطينيون من ممارسة حقهم في تقرير المصير». وأضافت: «لقد تمت هندسة هذا الأمر (الاحتلال) لمنع الفلسطينيين من الحصول على سيادتهم على الأرض والموارد الطبيعية وقمع الأنشطة السياسية، ومحو أي رموز ومظاهر لثقافة الفلسطينيين وهويتهم».
تمت صياغة هذه التوصيات عن طريق بعثة فلسطين ومؤيديها كمشروع قرار قدم للتصويت عليه في تلك اللجنة كإجراء ضروري قبل إرساله للاعتماد النهائي في قاعة الجمعية العامة. وقد جرى التصويت عليه يوم 11 نوفمبر 2022. وكانت نتائج التصويت: 98 دولة «نعم» و17 «لا» و 52 امتناع. ومن الدول التي صوتت إيجابيا، وبشكل مستهجن، أوكرانيا. أحيل مشروع القرار إلى اللجنة الخامسة المعنية بالميزانية التي يجب أن تعتمد تكاليف أي قرار يتضمن تبعات مالية. وحاول السفير الإسرائيلي أن يعطل تصويت اللجنة الخامسة لصالح التبعات المالية، إلا أن التصويت جاء مخيبا لآماله، حيث صوتت 105 دول مع استيعاب التبعات المالية و13 دولة ضد مشروع القرار، بينما صوتت 37 دولة بـ»امتناع». وقد فسر مندوب هولندا تصويت بلاده الإيجابي بقوله، ذلك إجراء متبع في كل القرارات التي تتضمن بعدا ماليا، ولا علاقة لذلك بمضمون القرار. بعد ذلك أصبح الطريق سالكا للتصويت عليه في الجمعية العامة كإجراء أخير.
ملاحظات حول التصويت
من الواضح أن التصويت في الجمعية العامة مساء 30 ديسمبر، اختلف عن التصويت على مشروع القرار نفسه في اللجنة الرابعة يوم 11 نوفمبر الماضي.
لقد عرض مشروع القرار للتصويت عليه الساعة السادسة مساء، في آخر لحظة قبل أن تبدأ عطلة رأس السنة، وبالتالي من المتوقع غياب عدد كبير من الوفود. كما مورست ضغوط هائلة على العديد من الدول لتغيير تصويتها، الذي أدلت به يوم 11 نوفمبر من «امتناع» إلى «لا» أو حتى التغيب عن التصويت. لقد تغيرت الأرقام كثيرا هذه المرة لتكون نتيجة التصويت السلبي 26 بزيادة تسعة أصوات وانخفاض التصويت المؤيد للقرار من 98 إلى 87 بخسارة 11 صوتا وزيادة عدد الممتنعين بصوت واحد من 52 إلى 53. وتغيبت عن الجلسة 26 دولة. أما الدول التسعة التي غيرت تصويتها من «امتناع» في الجولة الأولى إلى تصويت سلبي فهي: كرواتيا، كوستاريكا، كونغو، توغو، رومانيا، بابا نيوغينيا، كينيا، ألبانيا والمملكة المتحدة.
تغيبت 26 دولة عن التصويت من بينها أوكرانيا، التي صوتت مع مشروع القرار في اللجنة الرابعة، كما تغيبت من الدول التي كانت قد صوتت بالإيجاب: جزر القمر (العضو في الجامعة العربية) وأنتيغوا وباربودا، وغينيا وكازاخستان وأوزبكستان وبنين وتشاد وأوكرانيا وسورينام. إن تصويت 87 دولة فقط على مشروع القرار بتراجع 11 صوتا يمثل ضعفا وتراجعا في الاتصال بالدول التي صوتت لصالح مشروع القرار في المرة الأولى، والتأكيد عليها لتثبيت مواقفها. كما أن هذا العدد من الغياب غير مبرر، وما كان يمكن أن يكون بهذا الحجم لو كان التواصل مع هذه الدول مستمرا. يجب أن نعرف أن عدد الدول الأوروبية التي وقفت مع القرار سبع دول فقط هي: بلجيكا والبرتغال ومالطا ولوكسمبورغ وبولندا وسلوفينيا وأيرلندا. كما أن عدد الدول الافريقية التي ظلت تؤيد الحق الفلسطيني تراجع كثيرا، فالغالبية الساحقة إما صوتت بـ»امتناع» أو ضد القرار. ولم يصوت مع القرار من غير الدول العربية الافريقية إلا 11 دولة من بينها جنوب افريقيا ونيجيريا والسنغال وموزامبيق. أما دول أمريكا اللاتينية فالوضع أفضل قليلا، لأن عدد الدول في أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي أكثر بكثير من دول افريقيا جنوب الصحراء، حيث صوتت 17 دولة مع القرار أهمها، المكسيك والأرجنتين وتشيلي ونيكاراغوا والسلفادور وكوبا والبيرو وكولمبيا. إذن الغالبية الساحقة من المصوتين لصالح القرار هم من الدول العربية والإسلامية وبعض دول مجموعة عدم الانحياز، وبعض الدول ذات التوجهات اليسارية. وقد تراجع عدد من الأصدقاء الدائمين وغيروا مواقفهم مثل الهند واليونان وقبرص وغانا، فقد صوتت بـ»امتناع»، أما ايطاليا وألمانيا فقد صوتتا ضد القرار في المرتين. فلا يصدعن رؤوسنا أحد بأن العالم يقف معنا، فمجرد أن يصوت فقط 87 دولة مع القرار يعني أن 106 دول كانت في الجانب الآخر بطريقة أو بأخرى وهذا مؤشر خطير للتغيرات الدولية.
أهمية القرار
يتكون القرار من ديباجة طويلة ومهمة وتفصيلية حول الممارسات الإسرائيلية و19 فقرة عاملة أهمها ما جاء في الفقرة الثامنة عشرة المتعلقة بإحالة مسألة الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية، لإصدار فتوى بشأن السؤالين اللذين ذكرناهما سابقا. أهمية الفتوى القانونية أنها ستحكم على أيديولوجية الاحتلال نفسها، لأن إسرائيل تنكر أنها تحتل أرضا، بل هذه أرضها عادوا إليها ويريدون أن يفرضوا هذه الرواية على العالم غصبا وليس إقناعا أو استنادا إلى قانون أو شرعية. فأهم ما سيصدر عن المحكمة هو وسم الاحتلال بأنه غير قانوني، وفي حالة انتهاك للقانون الدولي، ثم يطلب من أجهزة الأمم المتحدة ودول العالم أجمع أن تتعامل معه على هذا الأساس. هذا يصبح قانونا يجب الالتزام به من ناحية قانونية وأخلاقية، وكل من يتعامل مع هذا الاحتلال يكون منتهكا للقانون الدولي. أهمية هذه الفتوى القانونية، عندما تصدر، أنها ستعطي فرصة للشعب الفلسطيني وقياداته وطلائعه والشعوب العربية أن توقف أي نوع من التعامل مع هذا الكيان المارق غير القانوني، وأن تصعد مقاومتها على مستوى العالم بدعم برنامج المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات استنادا إلى القانون الدولي. وكذلك توسع مقاومتها على الأرض بشتى السبل لأن مقاومة كيان غير قانوني تصبح أمرا أخلاقيا يستند إلى القانون. فهل يلتقط قادة الشعب الفلسطيني الحقيقيون هذا الدرس ويعملون على أساسه من أجل هزيمة احتلال غير قانوني بختم من أعلى سلطة قضائية في العالم؟ هذا ما ننتظره فعلا لا قولا.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجدامعة رتغرز بنيوجرسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى