المهاجرون والبحر المتوسط… ليبيا بين المأساة الإنسانية وضغوط المجتمع الدولي

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
ما تتجدد المأساة على سواحل ليبيا، حيث أعلنت المنظمة الدولية للهجرة في 16 سبتمبر 2025 أن قاربًا يقلّ75 لاجئًا سودانيًا اشتعلت فيه النيران قبالة الساحل الليبي، ما أسفر عن وفاة ما لا يقل عن50 شخصًا، أنقذت المنظمة 24 ناجيًا وقدّمت لهم الدعم الطبي، لكنها أكدت أن هذه الحادثة تعكس كارثة أوسع تواجهها المنطقة منذ سنوات: فآلاف المهاجرين واللاجئين يتخذون من ليبيا محطة عبور رئيسية إلى أوروبا، في رحلة محفوفة بالموت.
وتتزامن هذه المأساة مع تصاعد القلق الدولي بعد حادثة أخرى أثارت الجدل في الحادي عشر من سبتمبر، عندما أعلنت وزارة الخارجية النرويجية أنها تعتقد أن زورقًا يتبع خفر السواحل الليبي أطلق النار على سفينة الإنقاذ “أوشن فايكنغ” التي ترفع العلم النرويجي في 24 أغسطس. كاد الحادث أن يعرض الطاقم والمهاجرين والركاب لخطر مباشر، ما دفع أوسلو إلى المطالبة بتحقيق عاجل وضمانات بألّا تتكرر مثل هذه التصرفات.
ويتحوّل بذلك البحر المتوسط مجددًا إلى مسرح لصراع الإرادات بين حقوق الإنسان ومصالح الأمن. أكدت المنظمة الدولية للهجرة بأنه وحتى تاريخ فبراير 2025 استضافت ليبيا ما يقارب ال 867 ألف مهاجر من 44 جنسية مختلفة، يعيش أغلبهم في أوضاع هشة بين مخيمات غير رسمية ومراكز احتجاز تفتقر لأبسط معايير الكرامة الإنسانية. تسيطر الجنسية السودانية على فئة المهاجرين في ليبيا اذ يهرب السودانيون بشكل خاص من أهوال الحرب المستمرة في بلادهم منذ أبريل 2023، فيواجهون العنف العرقي والجوع والمرض، ويجدوا أنفسهم في أغلب الأحيان أمام موت آخر في البحر.
فضح الحادثان طبيعة المعضلة الليبية بعد 14 عامًا على سقوط نظام معمر القذافي، اذ تحولت البلاد منذ 2011 إلى بوابة رئيسية للهجرة غير النظامية بعد انهيار مؤسسات الدولة وانقسام السلطة بين حكومتين متنافستين في طرابلس وبنغازي. تستغل شبكات التهريب غياب الرقابة لبيع الوهم للمهاجرين، بينما يواجه خفر السواحل اتهامات متكررة بانتهاكات جسيمة، بينها الإغراق والضرب والإعادة القسرية.
بدأت تحركات الأمم المتحدة بحذر، فأطلقت بعثتها في ليبيا بيانات دورية تطالب بحماية المهاجرين وضمان حقوقهم، فيما دعت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى إنشاء آلية إنقاذ إقليمية تضمن نقل الناجين إلى موانئ آمنة. لكن ومع ذلك، تتكرر المآسي كل شهر تقريبًا. وتكشف منظمات غير حكومية مثل “سي ووتش” و”أطباء بلا حدود” أن أوروبا تتحمل بدورها جزءًا من المسؤولية، إذ تعتمد على تمويل وتدريب خفر السواحل الليبيين لوقف المهاجرين، ما يضاعف الانتهاكات بدل الحد منها.
وضعت الحادثة الأخيرة النرويج في موقع حساس، اذ أكدت أوسلو أنها ستواصل دعم سفن الإنقاذ، لكنها تحذر من أن إطلاق النار على “أوشن فايكنغ” يرقى إلى تهديد مباشر للقانون الدولي. وطالب بتحقيق شفاف ومحاسبة المسؤولين، فيما يلتزم الاتحاد الأوروبي الصمت نسبيًا، خوفًا من انهيار التعاون مع ليبيا بشأن ملف الهجرة.
تحوّل البحر المتوسط بذلك إلى مرآة لفشل النظام الدولي في إدارة أزمة عالمية. فتحدث قادة الأمم المتحدة مرارًا عن “المسؤولية المشتركة” في إنقاذ الأرواح، لكن في الواقع تستمر مآسي الغرق والاحتراق والإعادة القسرية. و تظهرالإحصاءات أن آلاف المهاجرين لقوا حتفهم منذ 2014 على طرق المتوسط، بينما تستمر أوروبا في تعزيز “جدران البحر” بدلًا من فتح قنوات آمنة للهجرة.
كشفت الحادثتان الأخيرتان وهما: احتراق القارب السوداني وإطلاق النار على سفينة الإنقاذ النرويجية، أن ليبيا لم تعد مجرد محطة عبور، بل أصبحت نقطة اشتباك بين المهاجرين والمهربين وخفر السواحل والدول الأوروبية. ويظل الضحايا هم الأضعف: فهم لاجئون يهربون من حروب في السودان وإثيوبيا وسوريا واليمن، ليجدوا أنفسهم عالقين في بلد غارق في انقساماته الداخلية، وفي بحر يحوّل أحلامهم إلى كوابيس.
الخلاصة أن المشهد الليبي منذ سقوط نظام القذافي الى اليوم يعكس معادلة قاسية: فليبيا دولة منقسمة، أما المجتمع الدولي فهو مجتمع متردد، وأوروبا أصبحت متوجسة، في حين يبقى المهاجرون بين مطرقة البحر وسندان الانتهاكات. في الوقت الذي تدعو فيه الأمم المتحدة لآليات إنقاذ أكثر عدلًا وشفافية، يظل السؤال قائمًا: كم من مأساة أخرى يجب أن تقع قبل أن يتحول البحر المتوسط من مقبرة إلى جسر أمل حقيقي؟