الصين والأمم المتحدة… بين التنافس مع واشنطن وبناء جسور نحو العالم العربي

الرئيسان الأمريكي دونالد ترامب والصيني شي جينبينغ في قمة العشرين، في أوساكا، اليابان (29/06/2019) © رويترز

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

منذ استعادة مقعدها الدائم في مجلس الأمن عام 1971 إلى أن تقدّم نفسها ليس فقط كقوة كبرى عائدة إلى الساحة الدولية، بل كصوت مختلف عن الهيمنة الغربية في أروقة الأمم المتحدة. واليوم ومع صعودها الاقتصادي والعسكري، أصبحت بكين لاعبًا لا يمكن تجاوزه في كل الملفات المطروحة على جدول أعمال المنظمة الدولية، من النزاعات إلى التنمية المستدامة. وبالتوازي، تبني علاقاتها مع الولايات المتحدة على معادلة مركبة من التنافس والتعاون، فيما تفتح أبوابها على العالم العربي مستثمرة في الطاقة والبنية التحتية، ومستثمرة أيضًا في موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن الذي يمنحها قدرة على صياغة التوازنات.
تشكّل العلاقة مع واشنطن العنوان الأبرز لدور الصين في الأمم المتحدة. فمنذ نهاية الحرب الباردة، احتكرت الولايات المتحدة قيادة النظام الدولي، لكن الصعود الصيني كقوة اقتصادية (ثاني أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي ناتج يفوق 18 تريليون دولار عام 2023) جعل المواجهة بين القوتين تنتقل إلى ساحات متعددة، بينها الأمم المتحدة. حيث أنه وفي مجلس الأمن، تتباين مواقفهما باستمرار: تدفع واشنطن نحو فرض عقوبات على إيران وكوريا الشمالية وروسيا، بينما تفضل بكين الحوار والوساطة. أما في الأزمة الأوكرانية، امتنعت الصين عن التصويت على قرارات إدانة روسيا، معتبرة أن العقوبات لن تجلب السلام. وفي المقابل، دعمت قرارات تدعو إلى هدنة إنسانية في غزة، محاولة إظهار نفسها كقوة عالمية تقف إلى جانب “القانون الدولي” في مواجهة “ازدواجية المعايير” الغربية. و قد جعل هذا التناقض العلاقة بين بكين وواشنطن داخل الأمم المتحدة مرآة للتنافس الجيوسياسي الأوسع، حيث لا حرب مباشرة ولا تحالف كامل، بل صراع نفوذ طويل الأمد
أما في العالم العربي، فقد وجدت الصين أرضية خصبة لبسط نفوذها. فمنذ إطلاق مبادرة “الحزام والطريق” عام 2013، ضخت بكين مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية والموانئ والطاقة في الخليج وشمال أفريقيا. فأصبحت شريكًا استراتيجيًا للسعودية في النفط، إذ تستورد منها أكثر من 1.7 مليون برميل يوميًا، فيما تحولت الإمارات إلى مركز رئيسي للاستثمارات الصينية في المنطقة. بدورها احتضنت مصر استثمارات ضخمة في العاصمة الإدارية الجديدة، بينما وقعت الجزائر والعراق اتفاقيات بعيدة المدى تشمل النفط والبنى التحتية. واستثمرت بكين هذه العلاقات في المحافل الأممية للتأكيد على دعمها للقضية الفلسطينية، إذ دعت مرارًا إلى حل الدولتين ورحبت بمبادرات وقف إطلاق النار في غزة. وبذلك، يظهر دورها كطرف يحاول كسب ثقة الشعوب العربية عبر خطاب سياسي داعم، بينما تبني مع الحكومات شراكات اقتصادية عميقة.
لكن العلاقة الصينية بالعالم العربي ليست محصورة بالاقتصاد فقط. ففي مجلس الأمن، كانت بكين شريكًا ثابتًا في دعم القرارات الإنسانية الخاصة بسوريا واليمن وليبيا. حيث استخدمت الفيتو عدة مرات بالتنسيق مع موسكو لعرقلة مشاريع قرارات غربية تدعو إلى عقوبات على دمشق أو تدخلات أوسع في ليبيا. هذا الموقف قدّمه الإعلام الصيني باعتباره دفاعًا عن “سيادة الدول”، بينما رآه الغرب عرقلة لحلول سياسية أكثر حزمًا. ومع ذلك، وجدت بكين في هذه الملفات فرصة لترسيخ صورتها كقوة كبرى تقف ضد “التدخلات الغربية”، ما جعلها أقرب إلى بعض الحكومات العربية التي ترى في مواقفها سندًا أمام الضغوط الغربية.
ولا نتجاوز كون حضور الصين في الأمم المتحدة لا يقتصر على مجلس الأمن، فهي أحد أكبر المساهمين في ميزانية عمليات حفظ السلام، حيث يشارك أكثر من 2,500 جندي صيني في بعثات مختلفة، من جنوب السودان إلى مالي. وقد قدمت بكين مليارات الدولارات لصناديق التنمية الأممية، لتصبح ثاني أكبر ممول بعد الولايات المتحدة. وجعلها هذا السخاء المالي والعسكري قوة لا غنى عنها في آليات الأمم المتحدة، ورسّخ خطابها بأنها “قوة مسؤولة” تقدم حلولًا لا حروبًا. ومع ذلك، لم يخلُ الأمر من انتقادات، إذ يرى مراقبون أن بكين تستخدم المساعدات كأداة نفوذ سياسي، تربط بها الدول النامية عبر الديون والاستثمارات.
برز التناقض الأكبر في علاقة الصين بالولايات المتحدة عبر الأمم المتحدة، في ملفات التكنولوجيا والمناخ. إذ تتهم واشنطن بكين بالتلاعب في التجارة والاستثمار والتوسع العسكري، بينما ترد الصين بأنها تدافع عن “نظام دولي أكثر عدلًا”. ورغم التوتر، فإن قضايا مثل التغير المناخي أظهرت إمكان التعاون، حيث إنه في اتفاق باريس 2015، لعبت الصين والولايات المتحدة دورًا محوريًا في التوصل إلى الصيغة النهائية وأكدتا معًا التزامهما بخفض الانبعاثات. ورغم انسحاب واشنطن في عهد الرئيس “دونالد ترامب” ثم عودتها في عهد خليفته الرئيس “جوبايدن”، بقيت بكين متمسكة بالاتفاق محاولةً استثمار ملف المناخ لتقديم نفسها كزعيم دولي بديل.
أما على صعيد الأحداث الدولية الأحدث، فقد برزت الصين في ملف السودان حيث دعت إلى وقف إطلاق النار ودعمت جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لاحتواء النزاع في الفترة الممتدة بين 2023–2024. وفي الأزمة الروسية/الأوكرانية، طرحت مبادرة من 12 نقطة دعت إلى احترام السيادة ووقف النار، لكنها قوبلت بتشكيك غربي. أما في غزة وخلال الأزمة المستمرة منذ 2023 الى وقتنا الحالي، فصوّتت لصالح قرارات تدعو إلى هدنة إنسانية وإيصال المساعدات محاوِلة تقديم نفسها كصوت الشعوب، فيما واصلت واشنطن استخدام الفيتو لحماية إسرائيل. فأكسبت هذه المواقف بكين تعاطفًا شعبيًا في المنطقة العربية، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى التأثير الحاسم.
وبذلك تعكس الصين في علاقتها بالأمم المتحدة مشروعها العالمي: إذ أنها قوة صاعدة تريد أن تُظهر نفسها بديلاً للنظام الغربي، لكنها تدرك أن طريقها إلى القيادة يمر عبر التدرج والبراغماتية. حيث إنها في مواجهة مستمرة مع الولايات المتحدة في ملفات العقوبات والنزاعات، لكنها في الوقت ذاته لا تغلق أبواب التعاون في الاقتصاد والمناخ. وتمزج مع العالم العربي بين الاستثمارات الضخمة والدعم السياسي للقضايا العادلة، محاولة أن تبني لنفسها صورة “الشريك الموثوق”. وفي أروقة نيويورك وجنيف، يظهر المندوب الصيني أكثر حضورًا وثقة، مؤكدًا أن بكين لم تعد مجرد عضو دائم، بل لاعب يسعى لصياغة قواعد جديدة للعالم. ومع تصاعد التوترات من أوكرانيا إلى غزة مرورًا ببحر الصين الجنوبي، يبقى السؤال: هل تستطيع الصين تحويل نفوذها الاقتصادي والمالي إلى زعامة سياسية فعلية داخل الأمم المتحدة؟ أم ستظل قوتها “ناعمة” تتقدم بخطوات محسوبة في مواجهة الهيمنة الأمريكية؟
المقال ١٥: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى