الحرب العالمية الثالثة.. هل اقتربت ساعة الصفر؟

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان رائحة الحرب الباردة وصدى سباق التسلح النووي الذي ظنّ العالم أنه دفنه مع نهاية القرن الماضي، خرجت روسيا من صمتها الموارب، وفيما اعتبر استعراضا عسكريا بدا وكأنه رسالة مفتوحة إلى واشنطن والعالم الغربي مفادها أن موسكو لم تتراجع يومًا عن فكرة الردع الشامل، لتعلن عن اختبار صواريخ كروز وتوربيد يعمل بالطاقة النووية. لم يكن المشهد مفاجئًا بقدر ما كان صادمًا في توقيته، إذ جاء في لحظة تعيش فيها أوروبا ذروة القلق من استمرار الحرب في أوكرانيا واتساع رقعة الاشتباك السياسي والاقتصادي والعسكري.
تحدث الكرملين بلهجةٍ محسوبة، مؤكدًا أن هذه الاختبارات لم تتضمن رؤوسًا نووية، وأنها تأتي في إطار تطوير القدرات الدفاعية الروسية، لكن خلف اللغة الرسمية كان يكمن خطاب القوة. فالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الذي استثمر منذ سنوات في إعادة بناء صورة روسيا كقوة عظمى، بدا وكأنه يوجّه نداءً مزدوجًا: إلى الداخل الروسي ليثبت أن بلاده ما زالت تملك زمام الردع، وإلى الغرب ليذكّره بأن توازن الرعب لا يزال قائمًا مهما تغيّرت خرائط النفوذ. وفي الجهة المقابلة وبدون تأخير يذكر، ردت واشنطن عبر تصريحات مسؤوليها بأن استئناف التجارب النووية بات خيارًا مطروحًا “في ظلّ قيام الآخرين بالتجربة”، في إشارةٍ واضحة إلى روسيا وربما إلى الصين أيضًا.
وبين موسكو وواشنطن، وقفت بكين بموقفٍ غامضٍ وهادئ كعادتها لكنه محسوب، دعت فيه إلى “ضرورة الالتزامٍ الجاد بالمعاهدات الدولية” الخاصة بحظر التجارب النووية، بينما واصلت تطوير ترسانتها الاستراتيجية في صمت. أما أوروبا، فوجدت نفسها عالقة بين نيران الردع النووي وموجات الخوف من انهيار ما تبقّى من منظومة الأمن الجماعي. في وقت ذكرت فيه الأمم المتحدة ب ” لا” قاطعة لهذه الأساليب المتبعة من القوى الكبرى المتصارعة على اثبات مكانتها. ومع كل تصريحٍ جديد من أي طرف، بدا كأن العالم يقترب أكثر من حافة هاويةٍ جديدة، ليست بالضرورة نوويةً في شكلها، لكنها تحمل سمات الصراع ذاته الذي كاد في الماضي أن يُفني البشرية.
وللمتابع من بعيد والعارف بخبايا الصراعات لا يكون الأمر لديه مجرد سباق أرقام، رغم أن الأرقام وحدها تكفي لتوضيح الصورة؛ فروسيا تمتلك وفق مراكز الدراسات الإستراتيجية في واشنطن نحو 5580 رأسًا نوويًا محتلة بذلك المركز الأول عالميا، مقابل 5525 للولايات المتحدة في مركز ثان. غير أن ما يثير القلق ليس العدد، بل التوجّه، إذ عاد خطاب القوة ليحلّ محلّ لغة التفاوض، وارتفعت نبرة التحذيرات المتبادلة في مشهدٍ يشي بمرحلة جديدة من اختبار الإرادات. وفي الأثناء، يواصل الكرملين تأكيده أن استخدام السلاح النووي سيبقى “الخيار الأخير”، لكنه حذّر في الوقت ذاته من أن أي تجربة نووية في العالم قد تفتح الباب أمام ردّ روسي موازٍ، وهو ما فُهم على نطاقٍ واسع كتهديدٍ صريحٍ غير معلن.
وعلى الأرض، تستمر الحرب في أوكرانيا كمسرحٍ فعلي لصراع القوى الكبرى، حيث يواصل المجتمع الغربي تزويد كييف بالأسلحة الدقيقة والتكنولوجيا المتقدمة، فيما توسّع موسكو هجماتها الجوية وتستعرض طائراتها وصواريخها العابرة للقارات في مشاهدٍ مصوّرةٍ تُبثّ بانتظام على الشاشات الروسية الرسمية. من جهته يقرأ الإعلام الغربي هذه الاستعراضات كجزءٍ من “سياسة التخويف” التي يمارسها الرئيس الروسي لإجبار الغرب على القبول بأمرٍ واقع جديد في أوكرانيا، بينما يراها الروس دليلًا على “الصبر الاستراتيجي” في مواجهة التهديدات الأمريكية.
وبين هذا وذاك، يغيب الحديث عن الشعوب التي باتت تعيش على وقع الخوف من حربٍ كبرى جديدة تلوح في الأفق. أوروبا التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية تشهد ارتفاعًا في خطاب التطرف القومي، والولايات المتحدة الأمريكية تدخل موسمًا انتخابيًا قد يجعل من “العداوة الروسية” مادةً مثالية للتعبئة السياسية، فيما تتجه روسيا شرقًا نحو الصين والهند بحثًا عن تحالفاتٍ اقتصاديةٍ وممراتٍ تجاريةٍ بديلة تحميها من العقوبات الغربية. لم يعد العالم اليوم يرى الصواريخ كرموز قوةٍ فحسب، بل كعلاماتٍ على هشاشة النظام الدولي بأكمله.
و في عمق هذا المشهد، تعود لغة الخوف لتفرض نفسها من جديد. فبينما يتحدث الساسة عن الردع، يدرك الخبراء أن تزايد المناورات النووية ورفع درجة الجاهزية العسكرية في المحيطين الأطلسي والهادئ لا يمكن أن يمرّ دون أخطاءٍ أو حساباتٍ خاطئة. وبالتالي المدرك لحقائق الأوضاع يرى بكل وضوح وواقعية إن مجرد خطأٍ تقنيّ أو تقديرٍ خاطئ قد يشعل ما لم يستطع التاريخ منعه لقرنٍ كامل. ومع ذلك، يبدو أن الخطاب السياسي في موسكو وواشنطن يسير بخطٍّ موازٍ للخطر لا يتقاطع معه إلا في لحظةٍ من الغموض أو الانفعال
إذن العالم أمام اختبارٍ جديد: اختبار للإرادة والاتزان والقدرة على تذكّر دروس التاريخ. فالذين عاشوا الحرب الباردة يعرفون أن سباق الردع لا رابح فيه، وأن الخسارة فيه لا تُقاس بالأرض، بل بالإنسان. ومع ذلك، فإن ما نشهده اليوم ليس مجرد تكرارٍ للتاريخ، بل إعادة إنتاجٍ له بلغةٍ أكثر جرأةٍ وأقلّ حكمة. قد لا تكون الحرب النووية وشيكة، لكنها لم تعد خرافة. وحين تعود كل القوى العظمى لتختبر صواريخها أمام عدسات العالم، فإنها لا تختبر فقط سلاحها… بل تختبر صبر البشرية كلها. وتبقى في الأذهان أسئلة تقول:
هل نحن أمام تحذير أخير قبل الانفجار؟ أم أن العالم تعلّم من تاريخه أن يلعب بالنار دون أن يحترق بها؟




