الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة… بين الشراكة الأطلسية وتوازن العلاقات مع العالم العربي

أعلام أوروبية أمام مقر الاتحاد الأوروبي ببروكسل (رويترز)

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

منذ ولادته كفكرة تكاملية بعد الحرب العالمية الثانية، حمل الاتحاد الأوروبي مشروعًا يقوم على أن الدبلوماسية والاقتصاد يمكن أن يحققا ما فشلت فيه الحروب. ومع مرور العقود، تحول من سوق مشتركة إلى قوة سياسية ودبلوماسية تمتلك وزناً في المحافل الدولية، لا سيما في أروقة الأمم المتحدة حيث يسعى أن يكون صوتًا للتعددية وحكم القانون الدولي. ومع أن بروكسل ليست عضوًا كاملاً في الأمم المتحدة، إلا أن الاتحاد يتمتع بوضع مراقب موسع منذ عام 2011، يمنحه حق التدخل في النقاشات وتقديم مقترحات باسم جميع الدول الأعضاء، ما جعله لاعبًا جماعيًا ذا حضور مميز.
تشكل العلاقة مع الولايات المتحدة العمود الفقري للسياسة الأوروبية في المنظمة الدولية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، ظل الحلف الأطلسي الرابط الأمني الأقوى بين الطرفين، بينما شكّلت الأمم المتحدة الساحة التي يظهر فيها التباين بين واشنطن وبروكسل. ففي حرب العراق 2003، وقف الاتحاد الأوروبي منقسمًا: فرنسا وألمانيا وبلجيكا عارضت التدخل العسكري من دون تفويض أممي، بينما انحازت بريطانيا ودول أخرى إلى الموقف الأميركي، فكشف ذلك الانقسام هشاشة الموقف الأوروبي المشترك، لكنه أظهر أيضًا أن بروكسل قادرة على صياغة خطاب بديل يركز على الشرعية الدولية والدبلوماسية المتعددة الأطراف.
أما في الملفات العربية، فكان حضور الاتحاد الأوروبي دائمًا مزدوجًا: من جهة شريك اقتصادي رئيسي، ومن جهة أخرى طرف سياسي يسعى إلى لعب دور الوسيط. من ناحية أخرى وفي القضية الفلسطينية، دعم الاتحاد الأوروبي بشكل ثابت حل الدولتين، وموّل وكالة الأونروا ومشاريع إعادة الإعمار في غزة والضفة، حتى بات أكبر مانح منفرد للسلطة الفلسطينية. لكن في الأمم المتحدة ظل عاجزًا عن مواجهة الفيتو الأميركي الذي يعرقل قرارات تتعلق بإسرائيل، ما جعله في نظر كثيرين لاعبًا داعمًا إنسانيًا أكثر منه قوة سياسية قادرة على تغيير موازين التصويت.
في ليبيا، وقف الاتحاد الأوروبي خلف جهود الأمم المتحدة منذ 2011، داعمًا قرارات مجلس الأمن المتعلقة بحظر السلاح وبعثة الدعم الأممية. غير أن التنافس بين باريس وروما، وغياب سياسة أوروبية موحدة، جعلا الدور الأوروبي أقل فعالية مما كان يُنتظر. ومع ذلك، استثمر الاتحاد في ملفات إعادة الإعمار ودعم المؤسسات الليبية، معتبرًا أن استقرار ليبيا ضروري لحماية حدوده الجنوبية ووقف تدفقات الهجرة. وفي اليمن، دعمت بروكسل جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى تسوية سياسية، وموّلت خطط الاستجابة الإنسانية بمئات الملايين من اليوروهات، لكنها و من ورائها دول التكتل الأوروبي، لم تنجح في لعب دور مباشر في المفاوضات، تاركة الساحة للدول الإقليمية.
تعتبر علاقة الاتحاد الأوروبي مع العالم العربي أوسع من النزاعات. فالجزائر وتونس والمغرب شركاء في “سياسة الجوار الأوروبية”، وتتلقى مصر والأردن ولبنان دعمًا اقتصاديًا وإنمائيًا مستمرًا من بروكسل. يحاول الاتحاد الأوروبي عبر الأمم المتحدة إبراز نفسه كطرف يساعد على التنمية والاستقرار، وهو ما ظهر في دعمه الكبير لوكالات الأمم المتحدة العاملة مع اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا. ففي مؤتمر بروكسل السنوي حول “دعم مستقبل سوريا”، جمع الاتحاد الأوروبي أكثر من 6 مليارات يورو عام 2023 لصالح عمليات الإغاثة، ما عزز صورته كأكبر مانح إنساني في المنطقة.
ولا ينفصل الدور الأوروبي عن الأمم المتحدة في القارة الإفريقية، حيث يقود مبادرات مشتركة في مالي والنيجر والساحل، مع بعثات حفظ السلام والتنمية. ويُنظر إلى الاتحاد كقوة “ناعمة” تمتلك المال والدبلوماسية أكثر مما تمتلك أدوات القوة الصلبة. غير أن أزمات مثل أوكرانيا أعادت طرح سؤال: هل يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتحول من قوة اقتصادية/إنسانية إلى فاعل جيوسياسي حقيقي؟
منذ 2022، ومع اندلاع الحرب الروسية/الأوكرانية، ظهر الاتحاد الأوروبي في الأمم المتحدة كأكثر الكتل انسجامًا خلف “كييف”، فصوّتت جميع دوله تقريبًا لصالح القرارات التي تدين ما يسميه غزوا الروسي في حين تعتبره روسيا “عملية عسكرية خاصة” وتطالب بانسحاب القوات. كما فرض الاتحاد عقوبات واسعة على موسكو، وتعاون مع واشنطن في الدفاع عن أوكرانيا سياسيًا وماليًا. ذلك التنسيق عزز صورة “الجبهة الأطلسية” داخل الأمم المتحدة، لكنه أعاد أيضًا فتح النقاش العربي والإفريقي حول ازدواجية المعايير، إذ انتقدت دول عدة صمت الاتحاد الأوروبي إزاء الحروب في غزة واليمن مقارنة بحماسته في أوكرانيا.
ويشكل الاقتصاد ركيزة في علاقات الاتحاد بالأمم المتحدة. فهو أكبر مانح متعدد الأطراف، حيث يموّل أكثر من 30% من ميزانية وكالات الأمم المتحدة، من برنامج الغذاء العالمي إلى منظمة الصحة العالمية. هذا السخاء المالي يمنحه مكانة معتبرة، لكنه يظل أداة نفوذ ناعمة لا ترافقها قوة عسكرية مشتركة، إذ تبقى جيوش الدول الأعضاء خاضعة لحكوماتها الوطنية، ويظل الناتو الحليف الحقيقي للردع.
واليوم ومع صعود تحديات جديدة كالتغير المناخي والذكاء الاصطناعي وأزمات الغذاء، يقدّم الاتحاد الأوروبي نفسه في الأمم المتحدة كزعيم عالمي في ملفات التنمية المستدامة والطاقة النظيفة. وقد تعهد بخفض انبعاثاته بنسبة 55% بحلول 2030، وضخ المليارات لدعم التحول الأخضر في الدول النامية، ساعيًا إلى أن يكون نموذجًا لقيادة أخلاقية في قضايا البيئة. ومع ذلك، تواجه بروكسل تحديات سياسية داخلية، من صعود اليمين الشعبوي إلى خلافات بين الدول الأعضاء حول سياسات الهجرة والاقتصاد، ما ينعكس أحيانًا على وحدة مواقفها في المحافل الأممية.
وبذلك يمكن القول بأن علاقة الاتحاد الأوروبي بالأمم المتحدة تجسد طموح كيان يسعى إلى لعب دور “القوة المعيارية” في العالم، التي تفرض احترام القانون الدولي وتدعم الشرعية الأممية. ويظل الاتحاد الاوروبي في شراكته مع الولايات المتحدة، ركنًا مهما في التحالف الغربي، لكنه في الوقت ذاته يحاول أن يميز نفسه بخطاب متعدد الأطراف أكثر ميلاً للتوازن. في حين في علاقته بالعالم العربي، يظهر مانحًا وداعمًا إنسانيًا واقتصاديًا، لكنه يفتقد أحيانًا إلى الحسم السياسي. وبين أوكرانيا وغزة وليبيا واليمن، يبقى الاتحاد الأوروبي حائرًا بين قدرته المالية ورغبته في التأثير الجيوسياسي، وهو تحدٍ سيحدد مستقبله كفاعل أممي في العقود المقبلة.

المقال ١٤: زينة بلقاسم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى