سوريا… عقد ونصف من الحرب بين السلام المؤجل والتدخلات المتشابكة

FYE – Alkhader

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

ما تزال الأزمة السورية أحد أطول الصراعات الدامية في الشرق الأوسط فمنذ نهاية الحرب الباردة وبعد أكثر من أربعة عشر عامًا على اندلاع الانتفاضة الشعبية في مارس 2011، لم تحقق البلاد انتقالًا سياسيًا حقيقيًا، بل غرقت في شبكة معقدة من الحروب الداخلية والتدخلات الخارجية.  ولحد الآن، أغسطس 2025، يكرر الأمين العام للأمم المتحدة ” أنطونيو غوتيريش”ومبعوثوه المتعاقبون في تقاريرهم أن “السلام الشامل في سوريا لا يزال بعيد المنال”، رغم الانخفاض النسبي في حدة المعارك الكبرى منذ اتفاقات التهدئة في شمال البلاد.

تبدو سوريا اليوم، مقسمة إلى مناطق نفوذ: حكومة دمشق التي استعادت السيطرة على معظم المدن بدعم روسي وإيراني وشمال شرقي البلاد يخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية بدعم أمريكي محدود أما منطقة شمالها الغربي فترزح تحت نفوذ فصائل معارضة مدعومة من تركيا. وبين هذه الجغرافيات المتداخلة يعيش أكثر من 12 مليون نازح ولاجئ سوري نصفهم تقريبًا خارج الحدود في أكبر أزمة لجوء في العالم. أما الوضع الإنساني داخل سوريا فما يزال كارثيا اذ ان ملايين السوريين بحاجة إلى مساعدات غذائية، أما الاقتصاد فهو منهار ويعاني من عقوبات دولية وانهيار لقيمة الليرة إلى مستويات غير مسبوقة جعلت الحياة اليومية شبه مستحيلة.
لكن وعند العودة إلى جذور الصراع، يتضح أن الشرارة انطلقت في ربيع 2011 مع احتجاجات سلمية طالبت بالحرية والإصلاح السياسي. لكن الرد الأمني العنيف حوّل الاحتجاجات إلى مواجهة مسلحة، سرعان ما انقسم المشهد فيها الى: نظام يسعى للبقاء بأي ثمن ومعارضة سياسية وعسكرية متعددة دون أن نغفل الجماعات المتطرفة التي تسللت مستغلة الفوضى مثل “داعش” و”جبهة النصرة”. حاولت الأمم المتحدة منذ البداية إطلاق مسار تفاوضي، بدءًا من خطة كوفي عنان عام 2012، مرورًا بجنيف 1 و2 و3، وصولًا إلى مسار “أستانة” و”سوتشي” برعاية روسيا وتركيا وإيران. لكن اصطدمت جميع هذه المبادرات بغياب الثقة وتناقض الأجندات الإقليمية والدولية.
كانت التدخلات الخارجية العامل الحاسم. ففي سبتمبر 2015، حيث دخلت روسيا بثقلها العسكري وقلبت موازين القوى لصالح دمشق. أما إيران، فدعمت النظام عبر الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها. في المقابل اكتفت الولايات المتحدة بدعم محدود للمعارضة ثم ركزت على محاربة داعش، خصوصًا بعد إعلان التنظيم “الخلافة” سنة 2014. لكن ومع تحرير الموصل والرقة بحلول 2017، تقلّص نفوذ داعش لكنه لم يُمحَ تمامًا. تركيا بدورها، ركزت على منع إقامة كيان كردي مستقل على حدودها، ما جعل تدخلها العسكري يصبّ في مواجهة القوات الكردية بقدر ما واجه النظام.
واجهت الأمم المتحدة قيودًا كبيرة، اذ أصدر مجلس الأمن قرارات عديدة، كان أبرزها القرار 2254 لعام 2015 الذي نصّ على انتقال سياسي ودستور جديد وانتخابات بإشراف أممي. لكن الفيتو الروسي ومعه المساندة الصينية حالا دون تمرير أي إجراءات تنفيذية قوية ضد دمشق. وحتى القرارات المتعلقة بالمساعدات الإنسانية واجهت عراقيل، حيث خُفّضت منافذ دخول المساعدات عبر الحدود بضغط روسي مما جعل ملايين السوريين رهائن للحسابات السياسية.
لا ننسى الجانب الإنساني الذي شكّل جرحًا مفتوحًا. فقد تسببت الحرب بمقتل أكثر من نصف مليون شخص وفق تقديرات الأمم المتحدة ومنظمات مستقلة، الى جانب تشريد ملايين آخرين. شهد العالم استخدام أسلحة كيميائية كان أبرزها هجوم الغوطة في 2013، والذي دفع الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إلى التلويح بـ”الخط الأحمر”. لكن في النهاية أفضى التدخل الروسي إلى صفقة لنزع السلاح الكيميائي بدلًا من مواجهة عسكرية، ما عُدّ نقطة تحوّل في الصراع. أما الهجمات الجوية على حلب عام 2016 فبقيت رمزًا لفشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين.
اما اقتصاديًا، فلم تعد سوريا كما كانت بلدا يُعرف بإنتاجه الزراعي وصناعته المحلية، بل أصبح يعتمد على المساعدات والتحويلات وزادت العقوبات الغربية من عزلة الاقتصاد بينما استفادت شبكات تهريب ومحاور اقتصادية مرتبطة بالنظام من اقتصاد الحرب. فباتت إعادة الإعمار مشروطة بتسوية سياسية شاملة لم تتحقق حتى اليوم، بينما تستثمر روسيا وإيران في قطاعات محدودة لتعويض تكاليف تدخلها العسكري.
ظهرت خلال الأعوام الأخيرة محاولات لإعادة النظام السوري إلى الساحة الإقليمية، مثل عودته إلى جامعة الدول العربية عام 2023. رأت بعض الدول أن دمج هذا النظام قد يكون طريقًا نحو الاستقرار بينما ظل الغرب يرفض التطبيع دون خطوات سياسية واضحة. بقيت الأمم المتحدة من جانبها متمسكة بالمسار الأممي وقرار 2254 لكنها لا تملك أدوات إلزامية.
اليوم، ومع استمرار الانقسام بين مناطق النفوذ، يواجه السوريون مستقبلًا غامضًا. فالأمم المتحدة تواصل جهود الوساطة عبر مبعوثها “غير بيدرسن” الذي طرح “خطوة مقابل خطوة” كإطار تفاوضي، لكن تقدمه بطيء. تركزالولايات المتحدة على مكافحة فلول داعش ودعم الأكراد بينما تسعى روسيا لإدامة نفوذها عبر قواعدها العسكرية. أما تركيا فتخشى من تمدد المشروع الكردي، في حين ترى إيران في سوريا جزءًا من مشروعها الإقليمي. ووسط كل ذلك، يظل الشعب السوري هو الخاسر الأكبر بين حرب لم تنتهِ وسلام لم يولد.
تكسف بذلك التجربة السورية مأزق النظام الدولي: حيث تصدر قرارات ولا تُنفذ الى جانب مجلس أمن مشلول بالفيتو وتدخلات خارجية تفوق قدرات الأمم المتحدة، الى جانب أزمات إنسانية تتفاقم دون حل. وإذا كان اليمن يوصف بأنه “الحرب المنسية” فإن سوريا تبقى الحرب التي تذكّر العالم كل يوم بعجزه عن حماية المدنيين، وصعوبة إنتاج سلام حقيقي في عالم تحكمه المصالح الكبرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى