السعودية بين الطب المُتقدّم والذكاء الاصطناعي… رؤية تتشكّل على مقاس2030

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
في السعودية، لا تُدار اليوم التنمية كحزمة مشاريع متناثرة، بل كمعمارٍ متكامل يرسمه ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” برؤيةٍ تضع المملكة في «المقعد الأمامي» لسباق القوى الأكثر تطورًا. من المختبرات الحيوية إلى منصّات الذكاء الاصطناعي، ومن منصة «مبادرة مستقبل الاستثمار» إلى المدن الذكية على البحر الأحمر والدرعية، تتجاور الطبقة الاقتصادية مع الاجتماعية والتقنية لتصنع تحوّلًا نوعيًا يتقدّم بخطى ثابتة نحو 2030 وما بعدها.
تبدأ الحكاية من الصحة، حيث دشّن مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث أول منشأة وطنية لتصنيع العلاجات الجينية والخلوية على مساحة تتجاوز خمسة آلاف م² في قلب الرياض، بمعايير” جي ام بي” الذهبية ودمجٍ مباشر لتقنيات التصنيع الذكي والذكاء الاصطناعي.
المشروع ليس «ورشة مختبر» بل بنية سيادية للعلاج المتقدم
فإنتاج علاجات مناعية بالخلايا التائية والجذعية والنواقل الفيروسية سيتم بدءًا من نهاية 2025، ثم سيتم توسيع النطاق إلى تحرير الجينات وخلايا الكبد والجزر البنكرياسية، بطاقة تُقارب٢٤٠٠جرعة سنويًا بحلول 2030، وتغطية نحو٩٪ من الطلب المحلي وتوفير ٍما يُقدَّر ب بـ٨ مليارات ريال. هنا تتحول المملكة من مستورد للتكنولوجيا إلى مُصنِّع ومبتكر يقود سلسلة القيمة الدوائية ويُطلق مسارًا لتوطين المهارات وفرص العمل والمعرفة.
تحضر «مبادرة مستقبل الاستثمار» منصةً دائمة لتشكيل السياسات والصفقات، فبحسب محافظ صندوق الاستثمارات العامة “ياسر الرميان”، تجاوزت الصفقات المنجزة عبر المنصة 250 مليار دولار خلال أقل من عقد، بينما تتقدّم النسخة التاسعة نحو فاعليةٍ عالمية أوسع، تجمع أكثر من ثمانية آلاف مشارك وستمائة وخمسين متحدثًا في مائتين وخمسين جلسة. وفي المضمون تُعيد المملكة صياغة نموذج النمو: ٩٠٪ من الاستثمار الأجنبي المباشر اليوم غير نفطي وقد تضاعف أربع مرات منذ إطلاق الرؤية، فيما انفصل الاقتصاد السعودي «جوهرًا» عن تقلبات أسعار النفط، وارتفعت الإيرادات غير النفطية إلى نحو ٤٠٪ من تمويل الميزانية. إنها سياسة «تمكين السوق» التي يصفها وزير الاستثمار خالد الفالح بعبارة: حان الوقت ليتقدّم القطاع الخاص ويتوسع، بعد أن أنجزت الدولة ما وعدت به من تشريعات، مناطق اقتصادية خاصة، ومشاريع عملاقة تمضي “على قدمٍ وساق”.
وتعلو فوق ذلك طبقةٌ تقنية تصوغ هوية السعودية القادمة. شركة ” هيومن”، المنبثقة عن صندوق الاستثمارات العامة ويرأس مجلس إدارتها سمو ولي العهد ” محمد بن سلمان”، وتطلق هذا الأسبوع نظام تشغيل حاسوبيًا تفاعليًا يعتمد «اللغة الطبيعية» ليوجه الحاسوب بالأوامر الصوتية؛ خطوة تُحيل واجهات الأيقونات التقليدية إلى جيلٍ ما بعد النوافذ. الشراكة المعلنة مع “كالكوم” تُضيف بعدًا استراتيجيًا: منصة هجين ” ادج تو كلاود” لخدمات الاستدلال بالذكاء الاصطناعي مع خطط نشر مائتي ميغاواط ابتداءً من 2026، إلى جانب برنامج لتشييد نحو 6 غيغاواط من قدرة مراكز البيانات. الرسالة واضحة: الهيمنة المقبلة تُحسم على الحافة، حيث تنتقل الخوارزميات بسلاسة من الرقائق إلى السحابة فالأجهزة النهائية، والسعودية تتموضع في قلب هذا السباق ببنية تحتية، ونماذج متقدمة، وبيئة تنظيمية جاذبة.
إنها طبقاتٌ تتساند: صحةٌ متقدمة تُقلّص كلفة المرض وتطيل العمر الإنتاجي، واستثمارٌ نوعي يعمّق التنويع ويفتح أسواقًا ومهارات، وذكاءٌ اصطناعي يُضاعف الإنتاجية ويؤتمت الخدمات، فيما تواصل المشاريع الوطنية الكبرى، من البحر الأحمر إلى بوابة الدرعية، فتح الفنادق والمنتجعات واستقطاب رأس المال البشري العالمي، استعدادًا لاستحقاقات إكسبو للعام 2030 وكأس العالم 2034. وفي الخلفية، ترتفع المكانة المؤسسية: تصنيف مستشفى “الملك فيصل التخصصي” الأول إقليميًا والـ 15 عالميًا بين مؤسسات الرعاية الصحية الأكاديمية، و«العلامة الصحية الأعلى قيمة» في الشرق الأوسط؛ إشارات إلى معيار جودةٍ جديد يُكتب في الرياض.
هكذا تُفهم «رؤية 2030» في عمقها: فهي ليست هدفًا تاريخيًا وحسب، بل منهج تنفيذ يزاوج الجرأة بالحوكمة، ويحوّل الطموح إلى سياسات قابلة للقياس. قدّم الأمير “محمد بن سلمان” قيادةً تُجيد قراءة التحولات الكبرى، من الطاقة إلى الذكاء الاصطناعي، ثم تحشد لها رأس المال والتشريع والشراكات الدولية. ومع كل طبقة تُضاف إلى البناء، تتقدم السعودية صفًّا بعد صف نحو «الصف الأول» بين الاقتصادات الأكثر تطورًا، لا بالأرقام فقط، بل بازدهار الإنسان وهو المعيار الذي تُقاس به نهضة الدول حين تتسابق على المستقبل.




