دارفور بين السردية والواقع : حين تتحول الاتهامات إلى صناعة إعلامية

نيويورك – زينة بلقاسم –
أصبح من السهل في زمن الصراعات المفتوحة، أن نبحث عن عدو خارجي نعلّق عليه كل الأخطاء، حيث تتكرر في مشهد السودان المأزوم اليوم الرواية ذاتها: بأن دول الخليج وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة هي من أشعل الحرب، ومصر من ترعى الانقسامات، والولايات المتحدة تخطط للتقسيم، والمشير خليفة حفتر يمدّ الأطراف بالسلاح. لكن وللمتأمل إذا ركز سيرى الحقيقة الجلية والواضحة أبسط وأكثر تعقيدًا في آن واحد، لأن جذور الصراع ليست في أبو ظبي ولا في الرياض، ولا في القاهرة أو واشنطن أو بنغازي، بل في قلب الخرطوم ودارفور نفسها، حيث تحوّل شركاء الأمس إلى خصوم، وانقلبت رفاقية الثورة (إن صح تعبيري) إلى معارك على الكرسي والسلطة والنفوذ.
فمنذ سقوط نظام البشير، كانت كل الأطراف السودانية تحاول رسم خريطة نفوذ جديدة. حيث أرادت القوى المدنية أن تبني نظامًا ديمقراطيًا هشًا، بينما كانت للعسكر إرادة الحفاظ على ما تبقّى من سلطة الدولة. وفي وسط الصراع المشتعل، نسي الجميع أن الفاتورة الحقيقية سيدفعها المواطن السوداني: الفلاح في الجزيرة، والنازح في دارفور، والأم التي تنتظر رغيفًا وسلامًا لن يأتِي أبدا. وعندما انهارت جسور الثقة، كان من الطبيعي أن يملأ الإعلام الخارجي الفراغ ويتمعن في صياغة الرواية كما يشاء، ويحوّل مأساة السودان إلى مادة للتحريض السياسي ولمزيد تعميق الهوة بين الشعب والمتنازعين وحتى المراقبين.
وتتقن قنوات مثل “قناة تلفزيون الحوار“ وأخواتها –ممن تقل لديهم مشاهدا الا من قلة ثورية في نفوسها و لا يشفي غليلها الا اتهام القريب والتعامي عن الحقائق-هذا الدور متناسية من يمولها ولعل الداعم يكون في نفس مكان بثها. فهي لا ترى في أي أزمة عربية إلا مؤامرة عربية وخليجية، ولا في أي تحرك دبلوماسي إلا مشروع نفوذ، حيث في كل تغطياتها وخاصة منها الأخيرة، تحاول جاهدة أن تصوّر دولة الإمارات العربية وكأنها تعمل بتفان على “إغراق السودان بالدم”، وتلمّح إلى أن السعودية ومصر والولايات المتحدة الأمريكية وحكومة الشرق الليبي متمثلة بالاسم في المشير الليبي “خليفة حفتر” يعملون جميعًا على تقسيم السودان ضمن ما أطلقت عليه مسمى “صفقة خفية”. لكن هذا الخطاب لا يصمد أمام الوقائع، لأن جميع هذه الدول كانت، ولا تزال، من أبرز الداعمين لوحدة السودان واستقراره. فجمهورية مصر العربية، التي تتشارك مع السودان حدودًا وتاريخًا ونهرًا، كانت أول من دعا إلى احترام وحدة الأراضي السودانية، ورفضت منذ اللحظة الأولى أي سيناريو للتقسيم. أما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، فقد تحركتا دبلوماسيًا واقتصاديًا، وقدّمتا المساعدات الإنسانية والتنموية، بينما تضغط واشنطن من مجلس الأمن لوقف النار، لا لتوسيع رقعته.
المفارقة أن المشير الليبي خليفة حفتر نفسه، الذي اتُّهم بإرسال دعم عسكري لأحد طرفي المعركة، أعلن عبر بياناته الرسمية أن ليبيا لا تتدخل في الشأن السوداني، وأن أمن السودان من أمن جاره الغربي. في وقت تؤكد فيه التقارير الغربية الموثوقة، من وكالات دولية مرموقة، أن لا أدلة على أي دور مباشر لحفتر أو مصر ولا غيرهما في إشعال الحرب، وأن المعارك الحالية تنبع من التنافس الداخلي على مراكز السيطرة بين الجيش والدعم السريع، لا من تدخلات إقليمية كما تحاول بعض المنصات الإيديولوجية أن تُقنع جمهورها. ولنا فيما سمي بالثورات العربية نفس الاتهامات التي اثبتت زيفها.
وفي المقابل، كان تحرك الولايات المتحدة -عن طريق ارسال ممثلها- قائمًا على منع الانهيار الكامل للدولة السودانية، خوفًا من أن تتحول البلاد إلى بؤرة جديدة للإرهاب أو الهجرة غير النظامية، تمامًا كما حدث في ليبيا واليمن من قبل. وعلى عكس ما يُروَّج، لم تبحث واشنطن عن تقسيم السودان، بل عن طريقة لحماية مصالحها الإنسانية والأمنية والاقتصادية في بلدٍ يجاور البحر الأحمر، أحد أهم الممرات البحرية في العالم. ولأنها تدرك أن استقرار السودان يعني استقرار شرق إفريقيا، دعمت الجهود السعودية/الأمريكية في محادثات جدة، بدلًا من فرض حلول قسرية من الخارج.
لكن ما لا تقوله القنوات الموجهة هو أن السودان نفسه يعيش اليوم حربين في آن واحد: حرب ميدانية بالرصاص، وحرب سرديات في الإعلام. أولاهما تقتل الناس، وثانيتها تقتل الحقيقة. وفي هذه الحرب الثانية، تتحول دول الإمارات والسعودية ومصر إضافة الى الولايات المتحدة إلى أهداف سهلة في معركة شعارات، بينما يُعفى القادة المحليون من مسؤولياتهم الكاملة عمّا جرى. والنتيجة أن المواطن السوداني العادي، الذي ينام على صوت القصف ويستيقظ على الوعود، يجد نفسه أسيرًا بين روايتين متناقضتين: واحدة تبرر فيما الأخرى تتهم، ولا واحدة تبني.
وينسى أو بالأحرى يتناسى الذين يهاجمون الخليج اليوم، أن هذه الدول ذاتها هي التي وقفت قبل عامين فقط إلى جانب السودان عندما انهار اقتصاده. وهي التي استثمرت في زراعته وموانئه، وأعادت تشغيل بعض مشاريعه الحيوية، بل وساهمت في دعم عملة الجنيه السوداني لفترة من الزمن. ولو كان هدف هذه الدول هو “التقسيم”، لما أنفقت ملياراتها في بنيةٍ مهددة بالانقسام أصلاً. بل بالعكس وفيما من المفروض ان يرى حقيقة، أن دول الخليج والدول المجاورة للسودان تدرك جيدا بأن تفكك السودان خطر على الجميع، وأن الأمن القومي العربي لا يتجزأ بين شرقٍ، وغربٍ، وشمالٍ، وجنوب..
أما الجمهورية المصرية، فتنظر إلى السودان كعمق استراتيجي لا كملف سياسي. وأي تهديد لوحدة السودان يعني تهديدًا مباشرًا لأمنها المائي والحدودي. وأي تقسيم هناك سيفتح أبواب نزاعات لا تنتهي. ولذلك، لم يكن مستغربًا أن تُكثّف القاهرة اتصالاتها مع جميع الأطراف السودانية، وأن ترسل مبعوثيها في صمت لتقريب وجهات النظر، بينما ينشغل الإعلام الشعبوي في تكرار نظريات المؤامرة التي لا تنقذ طفلًا واحدًا من تحت الأنقاض ولا تشبع بطنا جوعى ولا توفر ممرا آمنا لفار من المذابح والانتهاكات.
في النهاية، لا يمكن أن يُبنى السلام في السودان على سلسلة من الأكاذيب الإعلامية. فلا الخليج يُسلّح، ولا واشنطن تُقسّم، ولا القاهرة تُخطط لتفكيك الجار. ما يحدث هناك هو صراع داخلي على السلطة، تدفع ثمنه أمة بأكملها، وتستغله قنوات تبحث عن جمهورا لاعن حقيقة. ولا يحتاج السودان إلى مزيد من الاتهامات، بل إلى مصالحة حقيقية تبدأ من أبنائه أولًا، ثم من دعم جيرانه له لا العكس. ومن يعرف تاريخ هذه الأرض يدرك أن القوى الخارجية مهما حاولت، لن تربح حربًا لم يربحها الداخل مع نفسه.




