جنين… مطلوب رأسها من الجميع

 

✍️ أ د / عبد الحميد صيام/

جنين قطعة من الجنة.. بداية مرج بن عامر، والنقطة الأقرب إلى البحر. سلة الغذاء. أرض البساتين المنبسطة التي تتجمل أكثر في فصل الربيع كأنها سجادة عظيمة من الزهور. واسمها بالكنعانية «عين الجنائن». تحتضن مقابر الشهداء العراقيين التي تذكرهم بالنكبة والعروبة والشهادة فلا تبتعد المدينة عن هذا المثلث أبدا.. تحمل صليبها وتسير في طريق الآلام ولا ترفع راية بيضاء لا لقريب ولا لغريب. لا يتحكم فيها التجار ولا المطبعون ولا تخرج فيها المسيرات والمظاهرات إلا من أجل الشهداء والوطن وكرامته، ولا تعنيهم اتفاقية «سيداو» فلديهم في أرضهم ما هو أهم.

اجتمعت في جنين ومخيمها ثلاثة عناصر قوة لا تتخلى عنها: بيوت الشهداء الموزعة على كل العائلات، بلا استثناء، والفصائل كافة منتشرة ومتحدة وأياديها على الزناد ولديها غرفة تنسيق مشتركة، والغالبية الساحقة من أبناء المدينة ومخيمها وقراها يختلفون مع السلطة، والود بين الطرفين مقطوع منذ انكشاف خديعة أوسلو في نهاية التسعينيات. لم يزرها رئيس سابق أو رئيس لاحق. رجال الأمن والشرطة والاستخبارات كلهم ذوو منابت وطنية ينتصرون لشعبهم قبل أن ينسقوا مع عدوهم وإن حدث اختراق فالعقاب الجماعي بالانتظار.
أذلت العدو مرارا وصمد مخيمها أكثر من جيوش ثلاثة بلدان عربية مجتمعة. وقف رئيس الأركان شاؤول موفاز، في إبريل 2002 يتابع «سوره الواقي» يتكسر في شوارع وأزقة المخيم. كان يراقب من مروحية ومن قمة جبل قرب جنين من الجنوب فلم يجد سبيلا لاقتحامه، إلا عن طريق تدميره. فنان فرنسي صنع مجسما ضخما في نقطة المراقبة التي تمترس فيها موفاز، والمجسم عبارة عن برج يقف على رأسه تمثال لشمبانزي أغمض عينيه وأغلق فمه ووضع أصابعه في أذنيه. لا يريد أن يرى أو يسمع أو يشاهد نفاق المجتمع الدولي الذي يعطي الفلسطينيين بيانات باردة ويمنح إسرائيل كل أنواع الأسلحة والأموال والمعلومات الاستخباراتية. إنه عالم ظالم قاهر لا مكان فيه للحق والمبادئ والعدالة إلا لأصحاب الشعر الأشقر والعيون الزرق «لأنهم مثلنا». حدث هذا قبل 20 سنة ـ لكن طائر الفينيق انتفض من الرماد وعاد حيا. في الثالث من إبريل من هذا العام، خرج شباب المخيم من كل الفصائل يحيون الذكرى العشرين لمعركة «أبو جندل» ورفاقة الثمانية والخمسين، كانوا ملثمين ومسلحين.. حملوا أرواحهم على أكفهم وعاهدوا الله والشعب ألا يُقتحم المخيم إلا على أجسادهم.

مهمة تركيع جنين ومخيمها

قال عومير بارليف وزير الأمن العام في الكيان، لراديو الجيش «نريد أن نحضّر لعملية واسعة لاجتياح مخيم جنين. لم نصل إلى القرار بعد، ولكن ذلك قد يكون قريبا. هناك خطوات يجب القيام بها أولا وها نحن ننفذها الآن». تتعاون الآن مجموعات النخبة الخاصة من قوات الأمن الصهيوني، بمن فيهم وحدات النخبة «إيجوز» وشاييطت 13، وسرية غولاني، وفريق قصاصي الأثر، والمستعربون من وحدة ميرول الاحتياطية. هؤلاء الذي قاموا باغتيال أكثر من سبعة شهداء في جنين والمخيم والضواحي، وشنوا غارات اعتقال شملت عشرات الفلسطينيين في الأسبوعين الأخيرين في جنين ويعبد ومخيم بلاطة للاجئين في نابلس، وطولكرم وقلقيلية وقباطيا وغيرها من البلدات المجاورة. «عش الدبابير» كما سموه، يؤرقهم، يقض مضاجعهم، يخيفهم، يدخلهم الملاجئ، يفقدهم الثقة في أنفسهم وفي حكومتهم وفي أجهزتهم الأمنية وفي مخابراتهم وفي عملائهم وفي شركائهم «في التنسيق الأمني المقدس». اليد الحديدية لن تولد إلا ردود فعل مماثلة، وانضمام مزيد من شباب وشابات الوطن لتيار المواجهة والانسحاب من تيار «الحياة مفاوضات». تركيع المدينة ومخيمها لم يعد مهمة إسرائيلية فحسب، بل مهمة سلطوية كذلك لأنها تعرّي، وتفضح وتهمش وتحول دعاة التنسيق الأمني إلى فئة معزولة لا مكان لها في صفوف الشعب، ولا تحتمي إلا بقوة العدو. لقد كُلفت القيادة هذه تكليفا واضحا وصارما بالقيام بمهمة الاحتواء والإغراء وتقديم المزايا والحوافز والمشاريع ليقدم المخيم طاعته ويصفق للقيادة. وحسب ما يتم تداوله من معلومات، فقد جاءت الأوامر في أواخر شهر سبتمبر 2021، عندما حضر وفد أمني أمريكي برئاسة الجنرال شولتز إلى الكيان الصهيوني، ثم إلى مناطق السلطة الفلسطينية، وكان يحمل معه خطة أمنية متكاملة بهدف تخفيف حدة التصعيد في مناطق السلطة الفلسطينية خلال رمضان. وقد أقرت الخطة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، لكن لم يتم اعتمادها من القيادة السياسية، انتقل بعدها الوفد إلى رام الله والتقى بمسؤولين أمنيين وسياسيين فلسطينيين. وعرض عليهم الخطة. تجرأ أحد الحاضرين من القيادات السياسية وقال له، أعطنا فرصة لبحث الخطة والرد عليها، فقال له المسؤول الأمريكي هذه الخطة ليست للمناقشة ولكن للتنفيذ وانتهى الاجتماع.

مشكلة الاحتلال إنه يريد أن يرى جنين راكعة، لكنه لا يستطيع ذلك، وفي الوقت نفسه لا يستطيع تحمل لسعات «عش الدبابير» كما سماها موفاز

بعد أيام من اللقاء وبتاريخ 11 أكتوبر، اجتمع مجلس الوزراء في جنين واعتمد حزمة متنوعة من المشاريع التنموية في المحافظة بقيمة 90 مليون دولار في مجالات عديدة تشمل المياه والكهرباء والمنطقة الصناعية والصحة والمستشفيات والطرق والزراعة والمواصلات. كما اعتمد المجلس آلية جديدة لتسريع العمل في مشروع طريق حيفا – جنين، على أن يبدأ العمل خلال شهر، وإعداد التصاميم لعدد آخر من الطرق الجديدة في المحافظة. ولا أعرف لغاية الآن ما المقصود بخط حيفا-جنين؟ ألا يعني ذلك الضم الفعلي والقبول به؟ كما اعتمد مجلس الوزراء إنشاء كلية تقنية زراعية في المحافظة لتأهيل كوادر في الزراعة الحديثة. كانوا يعتقدون أن «بشائر السلام الاقتصادي» سيغري الناس ويخرجون للشوارع مهللين ورافعين لصور القيادات، وأن هذه الخطوات ستنزع فتيل الاحتقان الذي تشعر به غالبية الشعب الفلسطيني، خاصة في جنين بسبب غياب أي مشروع في الأفق: لا مقاومة ولا مفاوضات ولا تحسن في مستوى المعيشة وقصص الفساد تزكم الأنوف. الانقسام هو الحقيقة الثابتة والعرب في غالبيتهم تخلوا عن القضية الفلسطينية ونفضوا أيديهم منها وانقسام داخل فلسطين التاريخية بين قائمة مشتركة وقائمة موحدة متصهينة ولم يبق إلا أن يشمروا عن سواعدهم ويقاوموا ويحولوا جنين إلى غزة جديدة تناطح كفها الخشنة مخرز الأعداء. بعد فشل الخطة الأمنية وانفلات الأمور وتصاعد حدة المقاومة، خاصة في جنين دعا مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان لاجتماع في مكتبه في واشنطن مسؤولي الأجهزة الأمنية في إسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر. وقد وافقت الأطراف الثلاثة إلا إسرائيل، فقد رفض إيال هولاتا رئيس مجلس الأمن الإسرائيلي، الدعوة، بينما قبلها السلطة الفلسطينية ومسؤولا المخابرات المصري عباس كامل والأردني أحمد حسني. إسرائيل مصممة على أن تكسر رأس جنين بالقوة المسلحة مستذكرة ما فعله المخيم بها قبل 20 سنة بالتمام والكمال. لكنها تخشى أن يكون كسر الرأس ثلاثيا هذه المرة فيصيب أولا رأس الكيان نفسه، ثم يهشم السلطة. الأيام القليلة المقبلة ستكشف الكثير من التطورات. ستكون المنازلة الكبرى ابتداء من يوم الجمعة المقبل إذا ما نفذ المستوطنون وعودهم بذبخ القرابين داخل الأقصى. لكنهم أجبن من أن يقوموا بمثل هذه الجريمة التي ستشعل البلاد بكاملها، وليفعلوها إن كانوا قادرين.
مشكلة الاحتلال انه يريد أن يرى جنين راكعة، لكنه لا يستطيع ذلك، وفي الوقت نفسه لا يستطيع تحمل لسعات «عش الدبابير» كما سماها موفاز. الساعد المقاوم يشتد في جنين ليصل الساعد الممدود من غزة والساعد الثالث المرتفع فوق مباني أم الفحم. هذا المثلث الذي سيطيح بهذا الكيان الغريب المزروع عنوة في حلوقنا بقوة الدول التي تتباكى على احتلال أوكرانيا.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى