تونس واكتمال الدائرة على إجهاض هبات الربيع العربي

 

أ د / عبد الحميد صيام

تطوران أساسيان وقعا مؤخرا وفي طريقهما للاكتمال، يشيران بوضوح إلى أن الربيع العربي الذي انطلق قطاره في تونس يوم 17 ديسمبر 2010 قد لفظ أنفاسه أخيرا. مبروك لأصحاب نظرية «الربيع العربي مؤامرة».. إذن هزمت المؤامرة وعاد الاستبداد سيد الموقف، ولم يبق نظام عربي واحد آت من الصندوق، والانتخابات الحرة بعد انقلاب 25 يوليو 2021 في تونس. الاستبداد انتصر. مبروك لمؤيدي بساطير الجنرالات والمراسيم الرئاسية وحل البرلمانات وحكم القائد الفرد الملهم الذكي الحصيف.
التطور الأول هو الاستفتاء في تونس على الدستور يوم 25 يوليو 2022، الذي فُصّل على مقاس الرئيس قيس سعيد، والذي يعطي الرئيس صلاحيات واسعة ويهمش البرلمان، ويتجاوز القضاء ويكرس حكم الفرد، بل تمادى الرئيس بعيدا في مشروعه عندما دعا لانتخابات تشريعية كان يظن أن الملايين من التونسيين سيؤيدونه على «العمياني» ويتدفقون إلى الصناديق لمبايعته، فإذا بالصدمة تأتي من الجماهير، عندما لم تزد نسبة المشاركة عن 4% أو 7% حسب تصريحات المتفائلين الداعمين للاستبداد.

ثبت بعد ما حصل في تونس أن قوى الشر لن تسمح لإرادة الشعوب أن تنتصر، ويتبلور عنها نظام يمثل حقيقة مشاعر وآمال وآلام وخيارات الشعب

أما التطور الثاني فهو إعادة الاتصالات بين الحكومة التركية والنظام السوري وبترتيب روسي على مستوى أجهزة المخابرات أولا، ثم على مستوى وزراء الدفاع ثانيا، وبانتظار لقاء وزيري الخارجية لفتح الطريق واسعا أمام لقاء الرئيسين الأسد وأردوغان. لقد وضع الحدثان ختما بالأحمر على نهاية الربيع العربي في طبعته الأولى، على طريقة الأفلام المصرية التي كانت تنتهي دائما بكلمة «النهاية». لقد بقينا نجادل لعشر سنوات أو يزيد في أن تونس تمثل الاستثناء، وتثبت أن الربيع العربي جف في منابته الأخرى إلا في تونس، حيث أثبت الشعب أنه المؤهل لحمل راية التغيير السلمي المنظم والمتدرج نحو التحول الديمقراطي لثلاثة أسباب رئيسية، كما كنا نحلل، استنادا إلى نظريات التحول الديمقراطي وهي: نضوج المجتمع المدني ممثلا في مؤسسات ونقابات عيية على الكسر، وعزوف الجيش عن السياسة، وأخيرا لأن الشعب التونسي أكثر ثقافة ووعيا وتعليما. مايكل روس أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، تنبأ مبكرا في مقاله في مجلة «فورين أفيرز» عدد سبتمبر- أكتوبر 2011 أن النفط سيطيح بثورات الربيع العربي، فقلنا حينها إن رأيه الحصيف هذا يعطينا سببا آخر لإمكانية تخطي تونس مقصلة الثورات المضادة. الرئيس قيس سعيد ذكرنا بأننا كنا على خطأ، وأن قوى الثورة المضادة نجحت أخيرا في الإجهاز على ثورة الياسمين. اكتملت الدائرة الآن وأجهضت الثورات جميعا، إما بالانقلاب أو بالإغراق في الدم، أو باستخدام القوة المسلحة، أو بالجمع بين أكثر من أسلوب. لقد ثبت بعد ما حصل في تونس أن قوى الشر لن تسمح لإرادة الشعوب أن تنتصر، وأن يتبلور عنها نظام يمثل حقيقة مشاعر وهموم وآمال وآلام وخيارات الشعب، وما حدث في تونس يوم 25 يوليو 2021 هو قفل الختام. الشيء الذي سهّل الانقضاض على الثورات شماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية التي قفزت على الثورات وحاولت تجييرها لصالحها، وراحت تتصرف بعنجهية مطلقة وكأن التاريخ بدأ بوصول الجماعة لقاعات البرلمان أو قصور الرئاسة، وإذا بهم يفشلون على كل صعيد. تقبل بعضهم هزائمهم في الانتخابات، وبعضهم امتشق السلاح وبعضهم هرب من البلاد وبعضهم غيّر جلده 180 درجة وراح يصفق للطغيان. أما سوريا فقد حصلت الثورة السورية في بداياتها على زخم كبير من المؤيدين، دعت الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، لأن يصرح بأن أيام الأسد غدت معدودة. لقد شاركت في أحد المؤتمرات الداعمة للثوة السورية في بداياتها الواعدة 70 دولة تناثرت كلها الواحدة بعد الأخرى كما تبخرت التهديدات الأمريكية الأوروبية، وتراجع العمل الثوري الحقيقي المناهض للنظام واستبدل بجماعات متطرفة وإرهابية بعد وصول المعونات من خارج الحدود لإنقاذ النظام. ولم يبق في الميدان إلا بعض الجماعات الممولة خارجيا، كما تم القضاء شبه التام على الدواعش وأشباههم، وتركت مقاليد الأمور في سوريا حصريا في أيادي روسيا وتركيا وإيران، إضافة إلى جيب أمريكي يستخدم ورقة الأكراد في كل الاتجاهات ويتخلى عنها في الوقت الملائم.
بدأت الأنظمة العربية تعيد علاقاتها مع النظام السوري، بداية بحكومة كبير المطبعين محمد بن زايد في الإمارات، الذي كان أول من أعاد فتح سفارته في دمشق عام 2018، وأول من استقبله في القصر الرئاسي في أبوظبي في مارس 2022، وبالتأكيد ليس بهدف تعزيز محور المقاومة والممانعة. كما ملأت الأثير ومحطات التلفزيون الدولية أخبار إعادة الاتصالات بين النظام التركي الذي قاد تقريبا جهود إسقاط النظام السوري، وسمح لكل إرهابيي العالم أن يمروا من الحدود التركية للداخل السوري، فكانت مكافأته أربعة ملايين لاجئ سوري وانقلابا دبرته الولايات المتحدة عام 2016 كاد ينجح لولا أن الجماهير التركية نزلت إلى الشوارع لتحمي النظام الديمقراطي. وقبل تطبيع النظام التركي الكامل مع النظام السوري، أكمل أردوغان دائرة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن قبله النظام السعودي والإماراتي وإلى حد ما المصري، انطلاقا من نظرية أحمد داود أوغلو، تصفير المشاكل مع كل دول المنطقة.

دوافع الانفجار

من الغريب بعد كل ما شاهدناه على الأرض، أن يستمر بعض الكتاب المؤدلجين يكررون مقولة إن الربيع العربي نفسه مؤامرة وليس الانقضاض عليه، وبالتالي فإنهم يهينون تلك الملايين التي نزلت إلى الميادين والساحات تطالب بالتغيير ثم يبررون عودة الديكتاتورية العضوضة التي سهلت الانزلاق الشامل للتطبيع مع الكيان الصهيوني والتحالف معه، بعد أن أفلتت تماما من أي رقابة جماهيرية، فإذا كان الربيع العربي مؤامرة، فهل إعادة إنتاج أنظمة الطغيان دليل على إفشال المؤامرة؟ وهل الطبعات الجديدة للطغاة العرب أفضل من سوابقها، أم أنها أسوأ؟ وهل وجود البديل الأسوأ يبرر ويبجل السيئ المخلوع؟ وهل توقع بدائل أكثر قبحا يبرر رضوخ الشعوب العربية وبقاءها صاغرة صامتة مهيضة الجناح؟ الحقيقة التي سنبقى ندافع عنها وهي أن المؤامرة ليست في الربيع العربي بل عليه.. المؤامرة ليست على انفجار البركان، بل على تفريغه من محتواه وحرف مساره وإلغاء نتائجه والعودة بدول الربيع العربي إلى حالة الفوضى وحكم الأجهزة الأمنية ودوائر الفساد والتآمر، وإجهاض أي محاولة للانتقال الديمقراطي وسهولة الارتماء في أحضان العدو الصهيوني والتخلي عن القضية الفلسطينية. ما زلت أعتقد جازما أن هناك أسبابا موضوعية ذاتية دفعت بالجماهير العربية أن تكسر حاجز الخوف وتتدفق نحو الشوارع والميادين العامة صارخة «الشعب يريد إسقاط النظام»، فقد انتشرت في جسم الأمة قبيل انطلاق الثورة ظواهر مرضية سياسية واقتصادية واجتماعية تستحق أن تفجر طوفانا يطيح بالنظام العربي الرسمي، والانتقال نحو نظام أكثر عدلا قائم على سيادة القانون وإغلاق منافذ الفساد وتمكين الجماهير من تقرير نوع الحكم الذي ترتضيه والمعبر عن طموحاتها وخياراتها ورؤيتها.
*ألا تستحق الظواهر المرضية في العقد الأول للقرن الواحد والعشرين مثل انتشار الفساد وتعزيز نظام التوريث وانتشار الفكر المتطرف والجماعات الإرهابية واستهداف الكنائس والمساجد والأقليات من هزة جماهيرية عظمى؟
*ألا تستحق ظاهرة الانصياع الكامل للإملاءات الأمريكية الإسرائيلية هزة حقيقية عندما أعلنت الحرب على غزة من القاهرة، ومشروع توماس فريدمان تبنته القمة العربية في بيروت عام 2002 بينما شن الكيان الصهيوني حروبا على المدن الفلسطينية عام 2002 وغزا جنوب لبنان 2006 ودمر غزة في عدوان 2008-2009؟
*كيف لا يغضب هؤلاء العاطلون عن العمل من خريجي الجامعات، حيث تفاقمت البطالة لتصل إلى نسبة 25% وهي ضعف النسبة العالمية، بينما بلغ عدد فقراء العالم العربي 140 مليونا.
ألا تستحق تلك الظواهر بركانا مدويا يطيح بهذه المنظومة أو يحاول هزها؟ وإذا لم تكن تستحق فلماذا عادت الظاهرة عامي 2018 و2019 في كل من السودان والعراق ولبنان والجزائر؟ أهي مؤامرة أخرى على أنظمة العدل والخير والحكم الرشيد؟ إن التشكيك في هذه الثورات نابع أصلا من فكرة أن العرب غير قادرين وغير مؤهلين للحكم الديمقراطي الرشيد والتعددية والانتقال السلمي للسلطة. نحن نؤمن بحق هذه الأمة في التحرر والنهوض والتقدم وتمكين الشعوب واحترام مشاعرها العروبية التي ظهرت جلية في مونديال قطر، ولن نكون يوما في صفوف المهللين والمطبلين لأنظمة الاستبداد.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى