ملاحظات حول إعلان الجزائر للمصالحة الوطنية الفلسطينية

 

✍️ أ د / عبد الحميد صيام

سألني صديق جزائري عن رأيي في المصالحة الوطنية الفلسطينية التي جرت في الجزائر يوم الخميس الماضي 13 أكتوبر برعاية الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون شخصيا، فقلت له إن أهم ما في الإعلان هو مكان توقيع البيان وتوقيته. أما من حيث الانتقال إلى التطبيق العملي، وتنفيذ تلك البنود حقيقة فذاك أمر بعيد يحتاج إلى شرح واسع. فقال لي كيف؟ وهل كل ما جرى عبارة عن ممارسة للعلاقات العامة والتقاط الصور التذكارية مع الرئيس الجزائري، فقلت له إن أهمية البيان في كونه يأتي قبيل «قمة لمّ الشمل» التي ستعقد في العاصمة الجزائرية يومي الأول والثاني من شهر نوفمبر. هذه رسالة مهمة تطرحها الجزائر أمام المؤتمرين (والمتآمرين) كي لا يتعلل أحدهم بالخلافات الفلسطينية مبررا إيغاله في التطبيع، بل التحالف مع الكيان الصهيوني. «لا يتعللن أحد بالانقسام الفلسطيني ليبرر التطبيع»، لسان حال الجزائر. وهذا الموقف جاء بعد شهر تقريبا من اجتماع مهم آخر لأكثر من 150 مندوبا يمثلون المجتمع المدني العربي من 20 دولة، الذي عقد في وهران وأصدر بيانا يؤكد أيضا التفاف الشعوب العربية حول توحيد صفوف الأمة العربية، واعتبار فلسطين القضية المركزية للشعوب العربية جميعا. إذن الجزائر جاءت للقمة بورقتين مهمتين: موقف المجتمعات المدنية العربية وموقف الفصائل الفلسطينية وكلاهما يؤكد مركزية القضية الفلسطينية في وجه المطبعين والمتحالفين مع الكيان. أما الوحدة الوطنية الفلسطينية، فتلك مسألة تحتاج إلى تبيان صعوبة تحقيقها بالتفصيل.

لا بد أن ننتبه إلى أن الشخص الذي وقّع الإعلان عن حركة فتح هو عزام الأحمد. ومعروف في الساحة الفلسطينية أن عزام الأحمد هو آخر من يريد المصالحة الوطنية. «إذا أراد محمود عباس أن يفشل مباحثات حول الوحدة الوطنية يرسل عزام الأحمد، ولو كان جادا لأرسل محمود العالول وجبريل الرجوب»، هذه قاعدة يعرفها الفلسطينيون ويحفظونها عن ظهر قلب، وأتمنى أن أكون مخطئا. إن غياب الرئيس والعالول والرجوب عن الاجتماع مؤشر إلى أن الرئيس عباس غير معني بالوحدة الوطنية، ولا يريدها ولا يسعى إليها، وكل ما يقال في الخطابات ووسائل الإعلام حبر على ورق. نقطة أخرى من حيث الشكل، غاب عن اللقاء ثلاث شخصيات مستقلة ومهمة دعيت أثناء الحوارات الجزائرية مع الفصائل، فقد دعي كل من المحامي أنيس القاسم المتخصص في القانون الدولي والمستشار القانوني للوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن، برئاسة المرحوم حيدر عبد الشافي. وربحي حلوم، سفير منظمة التحرير السابق في إسطنبول، الذي اعترض على اتفاقيات أوسلو، وقدّم استقالته وبدأ ينشط كمستقل. والشخصية الثالثة خليل عساف، رئيس تجمع الشخصيات الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية. هؤلاء دعوا للمشاورات التمهيدية ولكن القيادة الفلسطينية اعترضت على حضورهم جلسة التوقيع، على اعتبار أنهم لا يمثلون فصائل. والنقطة الثالثة هي حذف بند مهم من الإعلان حول موضوع تشكيل حكومة وحدة وطنية، لأنها نقطة خلاف بين الأطراف، فاستُبعدت كي يتم التوصل إلى الإعلان بالإجماع، وسأعود لهذه النقطة لاحقا. والنقطة الأخيرة، هي وجود 14 فصيلا وفي بعض البيانات ذكر أن الرقم 16 فصيلا، هل حقيقة هناك وجود على الأرض لكثير من هذه الفصائل؟ هل يعرف الشعب الفلسطيني أين هذه الفصائل وحجمها وطرق تمويلها، ومن هم رؤساؤها، وماذا تقدم هذه الفصائل للمشروع الوطني الفلسطيني؟ كثير من هذه الفصائل لا وجود لها على الأرض، بل تستخدمها القيادة الفلسطينية لتبرر سيطرتها على موقع القرار وتدخل رموزها في القيادة لتقول إن هناك تمثيلا واسعا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. بعض هذه الفصائل تعتاش على تمويل القيادة المتنفذة مقابل مصادرة قرارها تماما لصالح جماعة الهيمنة المطلقة.

أي توجه صادق لوحدة وطنية حقيقية يجب أن ينطلق من قاعدة: الاحتلال لن يزول إلا إذا كان مكلِفا، ولن يتحرر شبر واحد عن طريق المفاوضات

يتضمن الإعلان تسع نقاط رئيسية، بعضها إنشائي وبعضها جوهري، يتطلب خطوات عملية لتنفيذه. وأهم نقاط الإعلان: تحقيق الوحدة الوطنية عبر إنهاء الانقسام وعقد الانتخابات الثلاثة خلال عام واحد ـ تشريعي- رئاسي- مجلس وطني، ثم إعادة تفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تشاركية. وتفعيل آلية الأمناء العامين، كما أن الجزائر ستتابع التنفيذ بالشراكة مع دول عربية أخرى.
معظم هذه النقاط مرتبط بإنهاء الانقسام، وتحقيق الوحدة الوطنية الحقيقية تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. فأين الخلل؟
إن حذف بند تشكيل حكومة وحدة وطنية يوضح نقاط الخلاف الرئيسية بين برنامجين ونهجين وعقليتين. فتشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة حركتي حماس والجهاد، يعني قبول هاتين الحركتين الانضواء تحت خيمة أوسلو، لأن الرئيس الفلسطيني عباس لن يقبل مشاركتهما إلا على أرضية ما يسميه، الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة بين الطرفين. وهذا بكل بساطة يعني قبول حل الدولتين، وقبول اتفاقيات أوسلو، وهذا أمر مستحيل، بل يشكل انتحارا سياسيا للفصيلين. أما إذا قبل عباس تشكيل حكومة وحدة وطنية، من دون أن يشير إلى الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة فهذا يعني، خروجه من مربع أوسلو والاقتراب إلى فصائل المقاومة والتحلل من الالتزامات الدولية ووقف التنسيق الأمني، الذي وصفه يوما بأنه «مقدس». وهذا سيثير عليه غضب إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا، ويتهمونه بتشكيل حكومة تضم حركات مصنفة بأنها «إرهابية»، وبالتالي سيفقد كل دعم وتأييد وتمويل من هذه الدول، وسيتهم بأنه انصاع لإملاءات حماس والجهاد وانضم إلى المعسكر الإيراني. وسيلقى عباس الضغط، ليس من الدول المذكورة أعلاه فحسب، بل من العديد من الدول العربية السائرة في الركب الأمريكي، التي تردد كالببغاوات «حل الدولتين». إذن من أين تبدأ عملية المصالحة الحقيقية، وعلى فرض أن هناك نية لدى القوى المتنفذة في رام الله وغزة بقيام وحدة وطنية حقيقية، على أي أرضية؟ التسوية أم المقاومة أم الجمع بينهما؟ هناك شروط مسبقة لا يمكن أن تتم الوحدة الوطنية الحقيقية إلا باتخاذ بعض الخطوات الضروروية:
أولا: الاعتراف بأن اتفاقيات أوسلو كانت كارثة حقيقية على الشعب الفلسطيني، ونقطة الانطلاق يجب أن تبدأ بالانسحاب منها وإلغائها والتحلل من تبعاتها، وعلى رأس ذلك وقبل كل شيء التنسيق الأمني الخطير، الذي أودى بحياة العديد من المقاومين الأبطال. لقد أعطت تلك الاتفاقيات شرعية لاحتلال فلسطين التاريخية وقسمت الشعب والأرض والحقوق، مقابل وعود غامضة لم يتم الالتزام بأي منها، كما شكلت غطاء للمطبعين العرب.
ثانيا: لقد جاء الانقسام الفلسطيني على أرضية أوسلو والخلاف بين توجهين: المفاوضات العبثية، التي لم تحقق شيئا ونهج المقاومة بالوسائل المتاحة كافة. لقد انتخبت الجماهير الفلسطينية حركة حماس عام 2006 ليس تأييدا لأيديولوجيتها، بل لأنها كانت (وأشدد هنا على كانت) تمثل حركة مقاومة فقط، قادتها يستشهدون في الميدان قبل عناصرها، واعتبرها الناس بديلا لأصحاب نظريات المفاوضات ومافيات الفساد.
ثالثا: القيادة الحالية غير معنية بعقد انتخابات لا رئاسية ولا تشريعية ولا مجلس وطني فلسطيني، ولنتذكر ما حدث في مايو 2021 عندما ألغى عباس الانتخابات. فعندما تأكدت القيادة النافذة بأن سقوطها سيكون مروعا، ألغت الانتخابات بحجة واهية و»عذر أقبح من ذنب» أي طلب من العدو أن يعطي شرعية لانتخابات القدس. وكأن شرعية الانتخابات تأتي من السلطة القائمة على الاحتلال؟ أي خطل أكبر من هذا؟ وهل انطلت هذه الحجة الواهية على أحد؟ إذن يجب أن نعترف بأن القيادة الحالية لن تعقد أي انتخابات، وإذا كانت جادة فلتدع لانتخابات المجلس الوطني. ولذلك على الشعب الفلسطيني أن يضغط باتجاه إجراء انتخابات فقط لمجلس وطني فلسطيني شامل لكل أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان على أرضية ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية لعام 1968. والمجلس الوطني المنتخب هو الذي ينتخب قياداته الشرعية التي سترسم استراتيجية جديدة للمرحلة المقبلة.
وبهذه المناسبة نثمن مبادرة الحملة الوطنية لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية والتحالف الشعبي للتغيير اللذين عقدا العزم على عقد مؤتمر شعبي في الخامس من نوفمبر لهذا الموضوع فقط: الضغط باتجاه انتخاب مجلس وطني جديد للأربعة عشر مليونا. إن أي توجه صادق لوحدة وطنية حقيقية يجب أن ينطلق من قاعدة: الاحتلال لن يزول إلا إذا كان مكلفا، ولن يتحرر شبر واحد عن طريق المفاوضات، واعتقد أن هذا الدرس وصل لكل الفلسطينيين. وما نشهده من حراك جامح للمقاومة في القدس ونابلس وجنين والداخل هو الطريق السديد لتحويل الاحتلال إلى مشروع باهظ الثمن سياسيا وماديا ومعنويا واقتصاديا. وأثناء عملية النضال الشامل في الداخل والخارج ستتحقق الوحدة الوطنية الحقيقية في الخنادق لا في الفنادق.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى