في الذكرى العشرين لغزو العراق: من الحصار إلى الاحتلال إلى الطائفية

 

✍️ أ د / عبد الحميد صيام

لا عمل للأمم المتحدة هذه الأيام إلا أوكرانيا. ومن المفارقات الموجعة أن الذين دمروا العراق وقتلوا وجرحوا من أهله أكثر من مليون إنسان، يتكلمون الآن بكل وقاحة عن انتهاك القانون الدولي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا ولا يريدون لأحد أن يذكرهم بما ارتكبوه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في العراق وكأنها لم تكن. وأود أن أراجع بعض الذكريات في ذلك البلد العزيز على قلوبنا جميعا.

عملت في العراق مرتين، الأولى أيام الحصار الشامل والظالم، حيث بعثت في مهمة عام 1997 للتعرف على آثار الحصار على الناس العاديين من أطفال ونساء ومهنيين وأناس عاديين، ثم أرسلت ثانية مع أول فريق أممي يصل بغداد في أوائل شهر يونيو 2003 بعد الاحتلال الأمريكي مباشرة لإنجاز مهمات ثلاث، تقديم المساعدات الإنسانية، والمساعدة في إعادة الإعمار، و«العمل مع سلطات الأمر الواقع لمساعدة الشعب العراقي في استرداد سيادته ووحدته الترابية، وإعادة بناء مؤسساته السياسية والتمثيلية».

من المفارقات الموجعة أن الذين دمروا العراق وقتلوا من أهله أكثر من مليون إنسان، يتكلمون الآن عن انتهاك القانون الدولي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا

أيام الحصار

في المهمة الأولى أتيحت لي الفرصة أن أزور 16 محافظة من مجموع 18، من الحدود الجنوبية في أم قصر إلى زاخو في أقصى الشمال، ومن السليمانية وأربيل إلى أور مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام، ومن كربلاء ومقاماتها العظيمة إلى البصرة وغابات نخيلها «ساعة السحر»، ووقفت صامتا أمام تمثال الشاعر العظيم بدر شاكر السياب. زرت الموصل ومئذنتها الحدباء، وآثار بابل وأسدها الرابض منذ فجر التاريخ. بكى أمامي كردي في صلاح الدين وهو يسرد معاناة الأكراد من ظلم الديكتاتوريات المتعاقبة، وأهداني كتابا بعنوان «أحفاد صلاح الدين». وجلست مع المهجرين الأكراد من مدينة كركوك الذين طردوا من ديارهم بغير حق. بكينا على موت طفل أمام عيوننا في مستشفى بكربلاء وأمه تصرخ وتولول والطبيب كان يحدثنا ولم يتحرك. فقلت له ولماذا لا تتركنا وتذهب إلى الطفل لعل الله يشفيه على يديك؟ فقال لا أستطيع أن أعمل أي شيء فالعشرات يموتون مثله كل يوم. فترة الحصار تلك التي امتدت 13 سنة دمرت العراق من الداخل، وتركته خاويا مهلهلا مدمرا، تنمرت فيه الأجهزة الأمنية المرتبطة بأبناء الرئيس، وفصل الشمال الكردي عن العراق وانتشرت آفات اجتماعية لم تكن معروفة من قبل كالتسول والعبث في الأملاك العامة وعدم احترام القانون. الدينار العراقي الذي كان يعادل 3.3 دولار أمريكي قبل حرب 1991 والحصار، انزلق إلى الهاوية ليصل سعر صرف الدولار الواحد 2000 دينار. انعدمت السلع المستوردة كافة كقطع الغيار ومواد البناء والأدوية، ولم تعد الطرق آمنة وتوقفت حركة الطيران المدني تماما، وازدهر التهريب من الحدود كافة. مفتشو الأمم المتحدة كانوا يعاملون العراقيين بكل جلافة واستهتار، واستغل بعض الموظفين الأوربيين مواهب الرسامين العراقيين لينتجوا بثمن بخس نسخا رائعة عن لوحات رينوار ومونية وسيزان وفان غوخ ليبيعوها في أسواق أوروبا بآلاف الدولارات. لقد أصبح العراق خاويا آيلا للسقوط، رغم أن الإعلام الغربي كان يصور العراق، لأسباب مشبوهة، بأنه قوة عظمى ولدية خامس أقوى جيش في العالم، ويملك ترسانات من أسلحة الدمار الشامل. كل ذلك كان بغرض التعبئة نحو الغزو ـ الذي لا نشك في أنه اتخذ منذ زمن، لذلك كان الاحتلال عام 2003 سهلا ولم يحارب الجيش ولا المليشيات ولا الحرس الجهوري ولا غيرها، لكن ممارسات الاحتلال أعادت روح المقاومة إلى هؤلاء الوطنيين الذين يحبون بلدهم، فأطلقوا حركة مقاومة شرسة أطاحت بعنجهية بوش ومستشاريه من المحافظين الجدد وأجبرتهم على الانسحاب شبه الكلي بعد ثماني سنوات من الاحتلال.

بعد الاحتلال

بعد الحرب أقر مجلس الأمن في قراره 1483 (2003) إنشاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق واختير البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميلو، ليرأسها رغم تردده في قبول المهمة، لكن الأمريكيين أصروا عليه دون سواه لما يتمتع به من سمعة جيدة وحنكة دبلوماسية رفيعة ولم يكن يعلم أن بغداد ستكون آخر عهد له بالدنيا. بدأ الفريق الأممي مهمته بالاتصال بكل أطياف الشعب العراقي. ترك سيرجيو الباب مفتوحا للعراقيين ليصلوا إلينا، ويحدثونا عن مآسيهم وشكاواهم حول فقد أخ أو اختطاف ابن أو غياب والد. أصبح مقر الأمم المتحدة في ما يسمى «فندق القنال» أشبه بخلية نحل. كان سيرجيو يتواصل مع القيادات الدينية والسياسية والمدنية كافة، ويقول جئت أتعلم من العراق باني الحضارات. كنا نعقد ورشات عمل للقانونيين والمرأة والشباب والجمعيات الأهلية والصحافيين، وكنت شخصيا مكلفا بالعمل مع الصحافيين العراقيين لإنشاء مركز الإعلام العراقي لرفع مستوى الصحافة وتدريب الصحافيين وعقد دورات ترفع من كفاءة الصحافي المهنية. الجيش الأمريكي كان منتشرا في الشوارع وعلى الجسور. ترك الوزارات والمؤسسات العامة من دون حماية لتنهب وتدمر إلا وزارة البترول والبنك المركزي. حتى المتحف العراقي الشهير الذي يضم بين دفتيه سبعة آلاف سنة من حضارة وادي الرافدين تركه الأمريكيون للنهب والسرقة. كنت أتجول على مقرات الصحف فمن الصعب أن يعتقد أحد أنني لست عراقيا، وبالتالي كان تحركي أكثر أمنا من لو تحركت في سيارات الأمم المتحدة. كل يوم ثلاثاء يصل الصحافيون إلى مقر فندق القناة في حافلة خاصة بتفويض من الأمم المتحدة لنتحدث معا عن هموم الصحافة العراقية وكيفية النهوض بها. ثم استأجرنا بناية في منطقة الوزيرية وأنشأنا المركز واخترنا ثلاثة موظفين من بين الصحافيين للإشراف عليه، وكنا ننوي افتتاحه في أول سبتمبر، لكن تدمير مقر الأمم المتحدة يوم 19 أغسطس 2003 ألغى كل خططنا في العراق.
أخبار عمليات المقاومة كانت تصلنا يوميا، لقد بدأت عمليات المقاومة بمعدل عمليتين في اليوم، وبدأت ترتفع مع زيادة التبرم من الوجود الأمريكي الثقيل. كثير من الأمريكيين الذين كنا نشاهدهم لا يعرفون ما يجري في العراق، ولا يعرفون لماذا هم هنا. الخوف كان يملأ عيونهم. تقارير متواصلة كانت تصل المقر عن عمليات التعذيب في سجن أبو غريب. طلب السيد دي ميلو أن يقوم فريقه بزيارة للسجن. في اليوم المحدد ذهبت مساعدة الممثل الخاص لشؤون حقوق الإنسان مع أحد مساعديها لزيارة السجن. حملتهم الطائرة المروحية وحطت بهم في ساحة أحد السجون. كان نظيفا ومرتبا وفيه مرافق جيدة، وتبين أن هذا السجن ليس سجن «أبو غريب» أصلا.
كان موعدي أن آخذ إجازة قصيرة لمدة أسبوع، حسب نظام العمل في البعثات الأكثر خطورة. قال لي سيرجيو يجب أن يأتي بديل لك كمتحدث رسمي يتقن العربية. وصلت زميلتي رهام الفرا من نيويورك مساء الثامن عشر من أغسطس. وفي الصباح ذهبنا مغا إلى المقر. قدمتها للزملاء وشرحت لها كل تفاصيل المهمة. وتناولنا طعام الغداء معا الساعة الواحدة والنصف. ودعتها واتجهت إلى المطار ثم طرت إلى عمان. وعندما وصلت الفندق الساعة الخامسة تقريبا أدرت التلفزيون على محطة الجزيرة وإذا بها في بث مباشر من مقر الأمم المتحدة ببغداد الذي تم تفجيره عن طريق انتحاري. كانت أعداد الضحايا ترتفع من خمسة إلى عشرة واستقرت على 22 و150 جريحا كان من بينهم سيرجيو ورهام وزملاء عرب ومسلمون في غالبيتهم الساحقة. كانت تلك أول عملية انتحارية في العراق. ولحق بها سيل الانتحاريين يقتلون آلاف الأبرياء من كل الطوائف والأعراق.

الديمقراطية على الطريقة الأمريكية

لقد كان احتلال الولايات المتحدة للعراق غير مبرر أخلاقيا أو سياسيا أو قانونيا. حرب شنت على بلد مستقل ذي سيادة بناء على حجج غير مثبتة ومبررات غير منطقية ومن دون سند قانوني أو شرعية من مجلس الأمن الدولي. بول بريمر، ممثل المحافظين الجدد من أمثال شيني ورامسفيلد، اتخذ ثلاثة قرارات كي يضمن تدمير العراق: اجتثاث البعث وحل الجيش وإنشاء مجلس الحكم في العراق بمحاصصة طائفية التي زرعت الفتنة إلى الأبد. هذه الديمقراطية التي تكلم عنها بوش. لقد كلفت الحرب الولايات المتحدة نحو 4500 قتيل وأكثر من 32000 جريح بتكاليف زادت عن التريليوني دولار ما سبب ما يشبه الانهيار الاقتصادي للبلاد في الأيام الأخيرة لعهد الرئيس الأسبق جورج بوش. لقد خرجت أمريكا من ثاني أطول حروبها (بعد حرب أفغانستان) مهزومة سياسيا وأخلاقيا ونفسيا. أصبح العراق مقسما طائفيا، وملاذا آمنا للجماعات المتطرفة من أنصار «القاعدة» و»داعش» وأخواتهما ثم خضع للنفوذ الإيراني والميليشيات التابعة للملالي.
لقد رفضت دعوتين لزيارة عراق ما بعد الاحتلال إلا بعد التعافي التام من الاحتلال والتقاسم الطائفي وأقمت ورشة حول استراتيجية الاتصال لاثني عشر من أعضاء البرلمان العراقي في عمّان رغم شوقي لعاصمة الرشيد وبلاد الرافدين. وما زلت أنتظر.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى